التقنية وعلاقتها بالسعادة عند مدرسة فرانكفورت

تمهيد
لاشك أن الحديث عن مفهوم التقنية في الفكر الفلسفي المعاصر يعتبر حديثا مهما، حيث ترتبط أهميته بأهمية موضوعه.
تتخذ الدراسات التي عالجت هذا الموضوع أكثر من منحى وترتبط بكيفية أو بأخرى ببعض الكتابات التي أنتجها فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة وبعض زعماء مدرسة فرانكفورت من أمثال أبل وهابرماس..
ويرتكز موقف معظم من عالجوا مفهوم التقنية بالبحث والتحليل والنقد في التشديد على أن التقنية قد اقتحمت جميع مجالات الحياة باعتبارها شبكة معقدة وقوة مهيمنة تفرض ذاتها وسيطرتها، ليس هذا فحسب بل اقتحمت حتى البيئة الطبيعية وأضافة إليها بيئة أخرى مغايرة ومليئة بالآلات والتقنيات حتى أصبح الإنسان شبيه بالكائن الاصطناعي يتحرك من تلقاء نفسه. وفي هذا السياق قال جان إيلول "ليس هناك استقلال الإنسان مع وجود التقنية". من الملاحظ أن مسألة التقنية وتطورها رافقتها مجموعة من التحولات التاريخية في سياق متواز مع التحولات الواقعية -كما سنرى في هذه المحاولة- انحصرت في مجملها في فكرة السيطرة على الطبيعة وتقديم العقل العلمي الأداتي في معالجة وحل كل الأشياء، وهذا ما عبر عنه بكل وضوح وصراحة الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون بقوله "لا يمكن السيطرة على الطبيعة الا بمعرفة حقة بقوانينها"[1]
ومن منطلق هذا التقديم وبناء على ما سبق حري بنا أن نطرح هذا التساؤل:
هل ساهم تطور التقنية في رفاهية وسعادة الإنسان؟
التقنية من منضور مدرسة فرانكفورت
إن الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة كما يتبادر إلى الذهن باعتباره كما قلنا سلفا سؤال يحكمه أكثر من حدين أو طرفين، لهذا يقتضي منا الأمر العودة من جديد ولو بصورة موجزة إلى نصوص مفكرين كرسوا اهتماماهم لنقد منجزات الحداثة وتطبيقاتها وعلى رأسها مفهوم التقنية وما رافقها من تحولات واقعية مست مختلف المجالات.
ولا نجد هنا ما يغني موضوعنا أفضل من استدعاء تصور بعض المدارس الفلسفية النقدية وخاصة التي اهتمت اهتماما بالغا بهذا الموضوع الا وهي "النطرية النقدية لمدرسة فرانكفورت". هذا التصور أو هذه المساهمة التي جاءت في سياق نقد العقل التنويري الذي عرف انزلاقات وتناقضات أفقدته معقوليته وكشفت زيف قيمه التي بشر بها باسم التنوير والحداثة والتقدم، وبالتالي كانت مآليته مخالفة تماما لما بشر به من قيم إنسانية رفيعة وكونية، كالحرية والديمقراطية والتقدم وإعادة الاعتبار للإنسان.. وسبب هذا التباعد أو هذا الانسداد يرجع بقوة حسب هايدغر وبعض أقطاب مدرسة فرانكفورت إلى منجزات الحداثة وتطبيقاتها بصفة عامة والتقنية على وجه التخصيص التي استعبدت الإنسان وأصبح شبيه بالآلة التي تشتغل وفق برمجة معينة.
وقبل تفصيل القول في ما إذا كانت هذه التقنية أسعدت الإنسان أم لا؟ يجب التنبيه أولا إلى الظروف التي أنتجت هذا الوجه المغرب والمستلب لحرية وقيمة الإنسان، ولا يسعني هنا الا أن أقول ما قاله الأستاذ الدكتور كمال بومنير "ليس العيب أو المشكل في الحداثة أو التنوير ولكن العيب في اتجاه العقل التنويري إلى التعامل مع الأشياء بنظرة أحادية" أي غلبة النزعة المادية التجربية القائمة على التكميم والقياس والفاعلية.
من منطلق هذا التوضيح لا نجد حرجا في القول إذا نحن قلنا أن الهاجس الذي حرك وجدان إنسان القرن السابع عشر والثامن عشر كان هاجس الانتصار على الطبيعة وتسخيرها لصالح الإنسان، وهذا ما أكده لنا أب الفلسفة الحديثة رونيه ديكارت "يمكننا أن نجد بدلا من الفلسفة النظرية التي تعلم في المدارس فلسفة عملية إذا عرفنا بواسطتها ما النار والماء والهواء والكواكب والسماوات وسائر الأجسام الأخرى التي تحيط بنا من قوة وأفعال، معرفة متميزة ، كما نعرف آلات صناعنا، استطعنا أن نستعملها بالطريقة نفسها في جميع ما تصلح له من الأعمال، ونجعل أنفسنا بذلك سادة على الطبيعة ومالكيها"[2]
هذا وقد نحى العقل كما قلنا سابقا منحا واحدا يمكن نعته بالمنحى الأداتي التقني وذلك في لحظة تاريخية بدأت تتبلور فيها رؤية ترى أن المعرفة العلمية والتقنية سلطة أو قوة في يد الإنسان الحديث غرضها الأساسي تملك الطبيعة والسيطرة عليها -كما ذهب إلى ذلك كل من هوركايمر وأدورنو في كتابهما الذي كتب بالتشارك "جدل التنوير"[3]، حتى يكون الإنسان مالكا وسيدا على الطبيعة. ولن يتأتى هذا الانتصار الا بالاعتماد على المعرفة العلمية وتعميم الروح العلمية في جميع الحقول المعرفية التي تلغي كل المعارف الأخرى حسب توجه أوجست كونت وباقي الوضعيين سواء كانت معرفة لاهوتية أو فلسفية.
وإذا كنا حتى الآن لم نصل إلى ما يثبت أو ينفي تحقيق سعادة ورفاهية الإنسان في مرحلة يغلب عليها طابع الحياة العلمية المتسمة بدرجة عالية من التقدم والتطور في شتى المجالات الحياتية[4] جاز لنا التوقف قليلا عند تصور ماركوز الذي يعلن بطريقة صريحة ومعلنة عن غياب الحرية لدى الإنسان وتقلص مساحتها، لان الفرد في تقديره أصبح مستلبا مدجنا في ظل مجتمع صناعي، فالهيمنة التي تفرضها التقنية على المجتمع الحديث والمعاصر هي هيمنة لا يمكن التحرر منها، لأنها تقدم تبريرا لغياب الحرية لدى الإنسان، على اعتبار أن طريق التقدم يتنافى مع طريق التحرر[5] أي فقدان الإنسان لقيمته بفعل تعميم النظرة الأحادية للعقل مما يؤدي إلى موضعة الإنسان وتشيئه حسب تعبير كارل ماركس، وقد أكد ماركوز هذه المسألة واعتبر أن ظهور التقنية بدأ منذ اللحظة التي سادت فيها العلاقات بين الناس وكدا الصراع من أجل الوجود واستغلال الإنسان والطبيعة، وفي الوقت نفسه خلقت هذه العقلانية للتقنية حالة ذهنية ونمطا من السلوك اللذان يفسران لنا مظاهر التدمير والقمع الموجه إلى الإنسان من طرف التكنولوجيا.
ختام
حاصل القول إذن أن العقل العلمي الأداتي حسب فلاسفة مدرسة فرانكفورت وكل المهتمين بنقد مشروع الحداثة أصبح بفعل ظروف تاريخية حاسمة هو الأداة الوحيدة القادرة على التعامل مع مختلف الظواهر والأشياء بطريقة نفعية، وبفعل سيادة وغلبة هذه النزعة العلموية على باقي المجالات والتيارات الفكرية الأخرى بدأ الإنسان يفقد كينونته وقيمته وحريته حيث أصبح هو الآخر موضوعا للمعرفة بعد أن كان ذاتا عارفة.
وعلى هذا الأساس يمكن القول أن مسألة التقنية ومنجزات الحداثة بوجه عام لم تعمل على التقليص من مساحة حريته واغترابه واستلابه، والسبب كما قلنا هو طغيان الجانب المادي العلمي الذي جاء في ركاب عصر التنوير والحداثة حيث؛ أصبح رهانه هو الكم والقياس والفاعلية وهو جانب يضرب عرض الحائط بكل القيم الإنسانية والأخلاقية والجمالية والدينية.
قائمة المراجع
- كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ط 1، 2010، الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر.
- رونيه ديكارت، مقالة في المنهج، ترجمة جميل صليبا، ط 1: الجزائر. دار موفم للنشر،1991 ص82.
- كمال بومنير، مصدر سابق.
- محمد سبيلا، مدارات الحداثة، بيروت الشبكة العربية للأبحاث والنشر،209، ص123.
- إيريك فروم، تملك أو كينونة؟ نقلا عن محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العلي، الفلسفة الحديثة، دار الأمان1991.
عن الكاتب
بلال الدويب العطافي أستاذ التعليم الابتدائي حاصل على شهادة الاجازة في الفلسفة.
من مقالاته أيضا:
من مقالاته أيضا:
مناقشة
إذا كان لك أي ملاحظة أو تعقيب أو إضاف للموضوع، المرجو تركها في صندوق التعليقات لاثراء النقاش، وتحسين الموضوع.
للتبليغ أو النشر على الموقع المرجو مراسلتنا عبر نموذج الاتصال الموجود أسفل الصفحة