تقديم
الكل يعلم ما طرأ على المجتمعات الغربية في القرن السادس عشر، من نقلة ذهنية وعلمية نوعية، طالت تصورها للعالم واعتبار الإنسان فيه. نقلة تَوَّجَت العقل، وجعلته مذهبها وديدنها،لا يأتمر إلا بأمره، ولا ينتهي إلا بنهيه، غير آبه بحّد ولا عابئ بمدّ، ُمِصّّراً على المضي قدما بذاته، وعازما على تدبير مصيره بنفسه، بحرية مسئولة و إرادة راشدة.
تلك هي أهم مقومات ما اصُطِلح على وسمه بالحداثة. تلك المقومات التي نطلب من أجيالنا الأخذ بها، والعمل بمقتضاها، مثلما نطالب المؤسسة التعليمية، ومدرس الفلسفة على الخصوص،بالبحث عن الوصفة القمينة بنقلها إلى صلب تفكيرنا وبادئ سلوكنا. غير أنه سرعان ما تبَّين أن الصيغ التي تم اعتمادها لتصريف هذه المقومات، والمسالك التي تقرر إتباعها بهدف ترسيخ هذه القيم، لم تكن ملائمة ولا فعالة، بالقدر الذي يجعل لساننا يتكلم لغة العصر، وفكرنا يشتغل بمقولاته و مفاهيمه.إذ غالبا ما كان خطاب الحداثة خطابا أخلاقيا، لا يغادر دائرة الوعظ والإرشاد. و هو ما يفسر، بدون شك، إفلاس منظومتنا الثقافية و التربوية، و مشروعنا المجتمعي على حد سواء.
و بيان ذلك، أن أَخْيَر دليل على تهافت ثقافتنا، بمعناها الواسع، انفصام شخصيتنا واتساع الهوة بين فكرنا و قولنا، و هو ما يسمى بالنفاق الاجتماعي. بالإضافة إلى الشرخ القائم بين قولنا و فعلنا، و هو ما يومأ له بالشلل الاجتماعي.
وأسطع برهان على فشل ثقافتنا، بمعناها الضيق، عدم ثبات مثقفينا في مستقرهم. فمنهم من يرحل في المكان لاستيراد العقل و استجلاب الحرية، وبينهم من يسافر في الزمان لتصدير نفس العقل ومصادرة ذات الحرية، إذا لم يعمل على استصدار الفتاوى والأحكام. وبين هؤلاء وأولائك ضلت حقيقتنا، إلى أن بهِت صداها، وخفتت لظاها، وضاع واقعنا، إلى أن تفرقع صوته، وفقع لونه. وهو ما يسمى بالعمى الاجتماعي.
وأكبر دليل على إخفاق ثقافتنا التربوية، الطلاق البّّّين، الحاصل بين مجتمعنا و نسقنا التعليمي، والذي ذهب إلى حد المقاطعة والمعاصاة، و هو ما يمكن وسمه بالصمم الاجتماعي.
رغم هذه الظلال المقلقة والمخاطر المحدقة والأجواء القاتمة،تبقى المؤسسة التربوية منتصبة، ترياقا لهذه الأدواء، وشفاء لهذه العلل. فلا ملاذ يأوينا،لإصلاح العقل و تقويم الذهن غيرها. و لا سبيل لحرق المراحل، وطي الطريق عداها. كما لا مناص،لاختزال التاريخ و احتوائه، من الالتفاف حول المدرس، لتأهيله و إقداره على ذلك.
للنهوض بهذه المهام الجسيمة، و إصمات دِوِّّيها الهد يد، يحسن بنا أولا، صياغة مشكلاتنا الفكرية صياغة واضحة، وبلورتها في برامج ومناهج نافذة، أقدر على طرح همومنا النظرية، على الوجه الأسلم، وأكفأ لتوسل الحلول لها بالصورة الأنجع. كما يجدر بنا تكوين المدرس الكفيل بالاضطلاع بعبء تصويب العقل، و تطويع الفكر، من أجل ملاحقة التاريخ، وتقفي خطاه. وأما المدرس الذي سيهمنا هاهنا في المقام الأول، فهو مدرس الفلسفة. فما هي الأسئلة التي ينبغي لنا طرحها أثناء تكوينه، و ما هي عناصر الأجوبة التي يلزمنا بها تزويده.ولنبدأ بصياغة الأسئلة.