معضلة الحرية في العقد الاجتماعي عند روسو
تمهيد
لقد شقت البشرية لنفسها مسارا طويلا وشاقا، حتى تصنع لنفسها هدفا ساميا واضح الملامح بخصوص طبيعة الإنسان وتفردها، وجعل الفرد محور كل الاهتمامات، حقوقية كانت أو اجتماعية أو سياسية، من خلال إيقاظ تجربة الإنسان في المعرفة ورسم الحدود بين الخير والشر، وبين الخطأ والصواب، بعدما نقل العقل المتنور كل استثماراته من الإله إلى الإنسان، وتحويل اهتماماته من المركزية اللاهوتية إلى المركزية الإنسانية، حينئذ بدأت بديهيات التفكير تنكسر وروتينيات التفكير الكهنوتي تنهار في مواجهة ثورة العقل.
من هذا المنطلق كانت الحرية هي أقدس التجارب الإنسانية، والملكة المتوجة للمشروع الأنواري قاطبة، على هذا الأساس تكون الحرية الوديعة الثمينة التي طمح إليها جان جاك روسو عبر انتزاع الحرية الذاتية للفرد ليصبح إنسانا ومواطن في نفس الوقت، هكذا فإن أحد الأهداف الجوهرية لإنجيل الثورة الفرنسة "العقد الاجتماعي" هو تأسيس دولة الحق والمواطنة، يعيش فيها الناس متساوين أحرارا في كنفها. فما هي المسوغات النظرية والعملية التي طبعت إشكالية الحرية داخل مسرح "الميثاق الاجتماعي"؟ وعلى أي أساس تقوم هته الحرية؟ وما الذي يميز مفهوم الحرية عند روسو عن سابقيه من أصلوا نظرية العقد الاجتماعي؟ هل انطوى تحت لوائهم أم كان له رأي أخر؟
وقد يقول قائل بأن الحرية عندما تسيج بالقوانين تفقد روحها وحيويتها، هل هذا يعني أن الحرية يجب أن تظل بمعزل عن القوانين أم ماذا؟ وكيف يمكن أن نجمع بين الحق والقانون والحرية، مع الحفاظ على مكانة كل مبدأ على حدا؟ أفلا يعني أن التعسف في ممارسة الحرية قد يؤدي إلى إلغاءها؟
كل هته الأسئلة تفترض علينا أولا وقبل كل شيء تحديد الأطر المرجعية والمقولات العملية التي صار عليها كتاب العمدة "العقد الاجتماعي" لفيلسوف الأنوار جان جاك روسو، لأن من الصعوبة بما كان الإحاطة بمفهوم الحرية وبيان مطالبه من غير تتبع المسار الأنتروبولوجي الذي جاءت على أثره بنود العقد الاجتماعي.
المشروع الفكري لدى روسو
أقيم المشروع الفكري عند روسو على تقويض ميتافيزيقا الأفكار والأساطير السائدة في زمانه ونسف الإيديولوجيات القائمة على الخرافات على أساس أن كابوسا يخيم على أوروبا من المحتمل أن يسير بها في سكة طريق سجن ناعم، بيد أن المجتمع المحيط به ليس سوى تجمع من الأشخاص الصنيعين ذوي العواطف المفتعلة عبثا، إنهم ليسوا سوى وجوه مستعارة، بل إنهم في حقيقة الأمر فريسة الذات، لقد صنعوا لأنفسهم عوالم الترف والتحضر والرقي، يبحثون عن العلوم والفنون دون سعادة وحب، وعليه ابتعدوا عن الإنسان كما هو، وعن الطبيعة الإنسانية المرهفة، بالتالي علينا أن نعود إلى الحقبة التي كان فيها الإنسان هو الإنسان ذاته، قبل أن يخلق لنفسه هذا العالم من المظاهر والخبث الاجتماعي، فالإنسان الخير واللطيف يوجد في الحالة الطبيعية .
إن الثقافة العلمية والفنية التي لطخت أرجاء وحواري وأزقة المدينة الباريسية لم تلق بتفكير روسو الظامئ للطبيعة، فكن الكراهية لروح الحضارة، بيد أن ميولاته عاشت في رومانسية مرهفة، وليس من الصدفة والغرابة أن يتوج الرجل بجائزة أفضل عمل جسد الأوضاع الحضارية والفنية التي سادت في أوروبا عامة وفرنسا على وجه الخصوص، من ثمة اضطلع روسو على الكشف عن هته الطفيليات التي خربت طبيعة الإنسان، إذ «أن حل مسألة اللامساواة يقتضي كشرط مسبق على حد تأكيد روسو معرفة الإنسان الطبيعي، الإنسان كما كونته الطبيعة( ... ) فإن لم نكشف عن حقيقة الإنسان الطبيعي، -الإنسان في حالة الطبيعة- استحال علينا أن نفهم القانون الطبيعي الأكثر ملائمة لتكوينه[1].
إن الرؤية التي تخيلها روسو حول حالة الطبيعة كان شطحة ميتافيزيقية لا بد منها، مادام علم الحياة لم يرتقي بعد إلى اليقين جراء الفحص عن أغوار الحياة البدائية عند الإنسان، لذلك صرح «إني لا أستطيع أن أبدي بهذا الصدد غير افتراضات مبهمة وخيالية أو تكاد، فإن علم التشريح المقارن لم يتقدم بعد إلا القليل الأقل، وملاحظات علماء الطبيعة لا تزال لا يقينية إلى حد كبير، وذاك ما يجوز لنا أن نقيم على أسس كهذه قاعدة يبنى عليها استدلال عقلي متين[2].
تملك روسو حنين جارف يناشد قلب الطبيعة التي شاعت فيها قيم الخير والفضيلة والحب وأن الشرور والأنانية والكذب ما هي إلا صفات المجتمع المتحضر المزيف، ويرى أن العلوم والفنون هي السبب الكبير تاريخيا عن ازدهار الكذب والنفاق، وذيوع الرياء وانتشار المكر والخداع، فكلما نمت المدينة مرت لها نفحات من العلوم والفنون زادتها تخبطا في ورك الفساد الأخلاقي والابتعاد عن الصفات الأخلاقية الفاضلة.
الإنسان في نظر روسو خير بطبعه، يولد فاضلا وأن الهيئة الاجتماعية هي التي أفسدته وأنه في حالته الطبيعية الأولى السابقة على وجود الجماعة، كان طليقا كامل الحرية تام الاستقلالية، وكان رغيد العيش هاني البال، مرهف الإحساس..، رغم ذلك اضطر إلى ترك الحالة الطبيعية على ما فيها من خير والدخول مع الأفراد الآخرين في نظام اجتماعي، عندما وجد أن الحالة الطبيعية لا تكفل له سداد حاجاته، نظرا لتعدد المصالح الفردية وتضاربها ولحدة المنافسة الشنيعة، وازدياد عوامل الش، واطراد التفاوت بين الأفراد، نتيجة ظهور الملكية الفردية التي أدت لا محالة إلى ازدياد التفاوت في الثروات بين جموع الناس، فسدت عن جراء ذلك المساواة الطبيعية التي كان الأفراد يتمتعون بها، وكان ذلك من أسباب القضاء على ما تمتع به البشرية من سعادة الحياة الفطرية الأولى، الأمر الذي حتم ضرورة إيجاد مجتمع سياسي منظم.
يقرر روسو بأن الأفراد بموجب العقد يتنازلون كليا دون تحفظ عن جميع حقوقهم للجموع هل يعني هذا أن الفرد يفقد حريته التي كانت هبته الأولى في حالة الطبيعة؟ أم أنه سوف يحظى بحرية أكثر عقلانية تكون فيها الإدارة العامة هي الأمر وصوت الحياة المدنية؟ فما الهدف إذن من الميثاق إذا ما فقدت حرية الأفراد؟ إن الشرط الذي يتنازل فيه «كل مشارك عن جميع حقوقه للجماعة كلها. إذ بما أن كل شخص بدء قد قدم نفسه بأكملها، وأن الحالة متساوية بالنسبة للجميع، وبالنظر إلى تساوي الحالة بالنسبة للجميع فلا مصلحة لأحد بأن يجعلها مكفلة للآخرين... أما وقد تم التنازل بلا تحفظ فإن الإتحاد يكون أكمل ما يمكن أن يكون ولا يبقى لأحد شيء يطالب به[3] لا يبطل قدسية الحرية أكثر ما يضمن لها الحيوية التنظيمية، لأن مقابل حقوقهم وحرياتهم التي تمتعوا بها في بادئ الحياة الطبيعية، سيحصلون على حريات تقررها الجماعة المدنية التي أقيمت بمحض إرادتهم واختيارهم، «فالقول بأن الإنسان يهب نفسه بلا مقابل أمر محال ولا يكمن تصوره، مثل هذا الفعل يكون غير شرعي وباطلا لمجرد أن من يأتيه لا يكون سليم العقل، وأن نعزو الأمر نفسه إلى شعب بأكمله معناه الافتراض بأنه شعب مجانين والجنون لا يصنع حقا إن تخلي المرء عن حريته هو تخل عن صنفه كإنسان، عن حقوقه في الإنسانية بل عن واجباته، فليس هناك أي تعويض ممكن لمن يتنازل عن كل شيء. إذ أن تنازلا كهذا مناف لطبيعة الإنسان، وانتزاع كل حرية من إرادته هو انتزاع كل أخلاقية من أفعاله [4]
إذن ما يفقد الإنسان بالعقد الاجتماعي هو حريته الفياضة للطلاقية في حالة الطبيعية ولا محدودة في كل ما يغريه وفي كل ما يستطيع بلوغه، أما ما يكسبه فهو الحرية المدنية وملكية في كل ما هو في حيازته ومتناوله، والفريد في الأمر أن هذا التنازل يفوض للمجتمع مهمة تأمين لهم كل متطلبات ونواحي الحياة الاجتماعية من حقوق اقتصادية وسوسيوحقوقية، على اعتبار أنهم الحائزين مؤتمنين على الثورة العامة، بالنظر إلى أن حريتهم تكون محترمة من جميع أعضاء الدولة ومصانة من جميع قواها ضد الخطر الأجنبي.
ينطلق روسو من مبدأ مفاده بأن لا وجود لتعارض بين سيادة الدولة وحرية الأفراد، وأن الحرية الحقيقية بموجب طاعة الإرادة العامة هي احترام القانون الإرادي، فإذا نشأت حالات من عدم المساواة بين الذين يضعون القانون والذين يخضعون له، بطل العقد لنيله من الحقوق الطبيعية الملازمة للإنسان بحكم آدميته وفرديته، فالأفراد يجب أن يظلوا أحرارا متساوين في الحقوق، والخضوع يكون لقانون غير شخصي، يطبق على الجميع دون استثناء، بالتالي فروسو يضحي بالحرية الفردية التائهة في أرجاء الطبيعة أمام الإرادة العامة غير قابلة لأي نوع من الارتهان، وهو يبصر أيضا على أن الحرية الفردية في عقده متواجدة لكن تتضاءل أمام الحرية العامة و تتجلى حرية الفرد بأجود معانيها عندما تحفظ الإرادة العامة حقوق الفرد.
ولما كان الإنسان حرا فإن قدرته على صنع الاتفاقات أو المواضعات تكون على تلك الحرية، لأن الإرادة لا تحددها الطبيعة، إلى هذا الحد يكون الإنسان هو صانع الأخلاق، والجسد السياسي هو تحقيق فكرة الإنسان من حيث إنه حر، على كونه موجود وغير محدد[5].
ويظل الشخص حرا كما كان من قبل، لأنه لا يصنع شيئا سوى إرادته وقد تغير شكلها ترضي الحرية الاتفاقية للمجتمع المدني الحق الطبيعي الأول لإنسان أي الحرية .
فإذا كان هوبس يرى أن ما يدفع الأفراد إلى إبرام العقد والتخلي عن حريتهم المطلقة هو الخوف من الموت والرغبة في حياة مريحة، في مأمن من الحرب، فالإنسان لا يتخلى عن حقه إلا في مقابل حق أرفع منه درجة، وهو الأمن، إثر ذلك لم يضع هوبس بحسبانه الوضع الذي يصبح فيه تخلي الفرد عن حريته تهديدا لحياته، مثال ذلك إذا أراد الحاكم إنهاء حياة شخص ما يشكل له خطرا، فإن ذلك الشخص حتى في خروجه إلى حريته المطلقة فلن يستطيع الإفلات من قبضة الموت، لأن نفوذ الحاكم أكبر.
إذن ما يمكن أن نؤاخذ عليه هوبس هو عندما ينطوي الجميع تحت ذراع الحاكم، وأراد هذا الحاكم انتهاك حياة شخص ما، فإن لا أحد يمكنه أن يردعه.
ختام
إن الهدف الأسمى من الميثاق عند فيلسوف الحرية هو الحفاظ على مبدأ الحرية والمساواة من منطلق الحفاظ على الحياة الآدمية والملكية بشكل الذي يجعل الخضوع خضوعا للمشيئة العامة التي لا تمتثل لأحد حين تمتثل للجميع، ففي خضوع كل طرف للإرادة العامة خضوع لحريته الخاصة، وبدرجة المساس بحرية فرد واحد المماس بحرية الكل، عبر الاهتداء إلى سنن و نواميس العقد من شأنه أن يدافع عن شخص كل شريك فيه وعن أملاكه وأن يحميها بكل ما يتوفر من قوة مشتركة، إذ يتحدد بمقتضاها كل واحد مع الجميع فإن مع ذلك لا يطيع إلا نفسه ويظل حرا كما كان قبلئذ[6].
من أجل كل ذلك فإن القيمة المضافة التي يضفيها العقد على الحرية هي الفضيلة الأخلاقية التي تكمن في طاعة القوانين التي يشارك فيها الجميع، لكي لا تنحدر الحرية في مطرح الفوضى والفساد الأخلاقي.
قائمة المصادر والمراجع
- فولغين، فلسفة الأنوار، ترجمة هنرييت عبودي، مراجعة جورج طرابشي، رابطة العقلانيين العرب، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى يناير 2006. ص 212.
- جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت في أسسه بين البشر، ترجمة بولس غانم، تدقيق وتعليق وتقديم عبد العزيز لبيب، عن المنظمة العربية للترجمة توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، بيروت، حزيران2009.
- جان جوك روسو، في العقد الاجتماعي، ترجمة ذوقان قرقوط، دار بيروت، ط1، 1973م، ص49.
- جان جوك روسو، المصدر السابق، ص42.
- ليو شتراوس وجوزيف كروس، تاريخ الفلسفة السياسية الجزء الأول، ترجمة سيد أحمد، ومراجعة د إمام عبد الفتاح إمام، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2005م، ص148.
- جان جوك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة وتقديم وتعليق، عبد العزيز لبيب، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز الدراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، يوليو2011م، ص93.
صاحب المقال
حمزة بن خدة طالب باحث بكلية الأداب والعلوم الانسانية - القنيطرة
من مقالاته أيضا:
من مقالاته أيضا:
مناقشة
إذا كان لك أي ملاحظة أو تعقيب أو إضاف للموضوع، المرجو تركها في صندوق التعليقات لاثراء النقاش، وتحسين الموضوع.للتبليغ أو النشر على الموقع المرجو مراسلتنا عبر نموذج الاتصال الموجود أسفل الصفحة