الثورة الفينومينولوجية
أحدثت المدرسة الفينومينولوجية بداية من القرن التاسع عشر انقلابا جذريا في تصوراتنا لكينونة الجسد، بحيث اجترت معها كل الخطابات الفكرانية، التأملية؛ علاوة على ما خلفه الإرث الديكارتي من هوة وشرخ عميق بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، جاعلا من الكوجيطو يعلو فوق كل معرفة تحاول أن تصير حقيقة مطلقة، فكانت كلمة السر للمدرسة الفينومينولوجية هي "العودة إلى الأشياء ذاتها'' أخذت على عاتقها إسترجاع ماهية الموضوعات، وبالتالي سوف يغدو الجسد المحور الذي يشاد حوله النقاش الفينومينولوجي والوجودي المعاصر بعد تاريخ طويل من الإجحاف والاستهزاء بالجسد من قبل فلسفات الوعي والديانات والكتب المقدسة، فقد دعت الحاجة اليوم ونضجت العناية لإدامة الحياة ليصبح العقل والوعي متواضعين، ويسلما مفاتيح القيادة للجسد،الذي هو الذهن الكبير بتعبير نيتشه، ولأن أول تجربة يخوضها الإنسان في العالم المادي تكون عن طريق الجسم، فإنه يضحى كل ما يستطيع كل فرد التعبير عن ذاته واقعيا من خلاله، وبالتالي سوف يصبح الجسد مقولة أنطولوجية أساسية في الوجود، في هذا الصدد سوف تعتبر الفينومينولوجية الميرلوبونتية (موريس ميرلوبونتي) البلسم الشافي لجروح وانتكاسات الجسد في أدبيات النقاش الفلسفي القديم، أخذت على عاتقها انعتاق الجسد من عنق زجاجة الفكر الدوغمائي الكهنوتي الأحادي ليصير الجسد كالقلب في العضوية، ولأن حضور الإنسان في العالم هو حضور متجسد، فالجسد يبقى دائما وأبدا هو وعاء الوعي ،وبوتقة انصهار بين الذات المفكرة وموضوع المعرفة، والرابط القمين بين الأنا الترنسندنتالية وبين الأنا الفينومينولوجية الوجودية، فلا يمكن فهم العالم بدون توسط للجسد، ولا يمكننا دراسة الجسد بفصله عن مبدأ الوعي وبعزله عن العالم الذي ينتمي إليه حسيا و وجوديا، وكذلك يمكن أن نفهم تحليلية ''الدازين'' التي استعملها ''هايدجر" بمعنى الموجود هنا التي تفيد الوجود في العالم عن طريق شعورنا داخل ذواتنا بالانتماء إليه وشعورنا بالحضور فيه عن طريق أجسادنا، فالإنية هنا لا يمكن أن تكون للفكر الانعكاسي (الإستباطي) ولا للأنا المتعالية، بل هي إنية للذات المتجسدة المنفتحة على العالم وعلى الآخر في حوار متذاوت يعلو بالآخر من الفكر المتوحد، باعتبار الآخر ذات أخرى وجسد أخر منغمس بدوره ومنخرط في خارطة العالم، بل أكثر من ذلك يصبح الأخر لا في ضفة إشتطارنا معه بل يجسد في حد ذاته شرط أساسي في إعادة هيكلة العالم وفي تغييره ليكون كما هو عليه داخل ذاتي المدركة له، في هذا المنوال يعتبر أب الفينومينولوجيا "إدموند هوسرل" حينما ننظر إلى الطاولة أو الجدار أو الكرسي نعرف أنه ثمة أشخاصا آخرين قد قاموا بتشييد الجدران أو بصباغة كل ما نراه، بذلك يضحى الآخر حاضرا دائما في وعينا على شاكلة مجموعة من الدلالات، أي أنه معنى من معاني العالم، وكذلك شرط من شروط تكون الأنا، لأن الأنا تكون دائما مرتبطة بأنا الآخر عبر حضورهما في العالم، وهذا ما يفسر ما يعنيه هوسرل بمفهوم البينذاتية أو التذاوت، الذي يحمل شحنة نفسية يمكن أن تفيد التعاطف والرأفة، وكذلك شحنة رمزية تعني التعرف على الآخر عبر مدلولاته الذاتية في العالم لأن الموضوعات في الفينومينولوجيا لا يمكن أن ترتبط بذات واحدة، بل هي مرجع لبيئة الذوات الأخرى لهذا يقول هوسرل:
إن الآخر ينكشف لي على هذه الطاولة، على هذا الحائط باعتبار أن هذا الموضوع هو موضوع دوما للآخر وهو كذلك مرجع لكل الذوات الأخرى
(التأملات الديكارتية، التأمل الخامس)
غير أن مفهوم البينذاتية الذي جاء به إدموند هوسرل وإن نجح في كسر عزلة وانطواء الكوجيطو الكلاسيكي الديكارتي جاعلا من تجربة الأنا الترنسندنتالية حقيقة تخرج من مأزق الحكم المسبق وتكون ''وعيا بشيء ما'' أي انفتاح الذات على تجربة العالم الذي هو قبل كل شيء مليء بالذوات التي بدورها تسعى إلى الانفتاح لتلتقي بالذوات الأخرى ، إما بطريقة مباشرة أو عن طريق الموضوعات، فإن الطرح الهوسرولي بهذا المعنى أغفل بصورة أو بأخرى دور الجسد الذي سيحاول فيلسوف الألغاز رائد الفينومينولوجية الفرنسية "موريس ميرلوبونتي" تصحيح مساره داخل البراديغم الفينومينولوجي جاعلا منه القوام الأكبر وشاهد على صحة أفكار الوعي وكوجيطو أقرب من وجودنا في العالم يحاكي مسعانا وشعورنا وعلاقتنا بالآخر لا من منطلق نظرة الغريب الذي يسكننا على نحو غريب، بل علاقة حميمية نكون فيها مع الآخر نور واحد في العالم ولحمة واحدة، وبذلك سوف يتجاوز مفهوم البينذاتية التي دافع عنها هوسرل واستبداله بمفهوم جديد أكثر حيوية وأكثر واقعية هو مفهوم البينجسدية ليس لقصد اعتباطي، بل إن ميرلوبونتي وضع نصب أعينه الإحراجات التي يمكن أن تحاصر مفهوم البينذاتية المعرضة دائما لخطر اللاتواصل والموضعة في الطرف الأخر عن طرق نظرة الجحيم، كما هو الشأن بالنسبة لفلسفة جان بول سارتر،أو عن طريق عدم الاعتراف بذاتية الآخر كما هو الشأن بالنسبة للتصور الهيجيلي عندما ''ينسحب كلّ منّا داخل طبيعته المفكّرة ويضحي كلّ منّا نظرة لا إنسانية بالنسبة إلى الغير و إذا أحـسّ كلّ منّا بأفعاله لا من حيث أنّ الغير يستعيدها و يفهمها بل من حيث هو يلاحظها كما لو كانت أفعال حشرة و هذا ما يحصل مثلا عندما يسلّط عليّ نظر شخص مجهول" (موريس ميرلوپونتي ـ فينومينولوجيا الإدراك) و ثانيا: لأنّ تصوّر موريس ميرلوپونتي للجسد قد سعى إلى تجاوز كلاسيكيات التفكير الفلسفي الدارسة لمنظومتيْ الوعي والجسد على شاكلة انفصالية تكون بمقتضاها الذات مُقيمة في الجسد ولديها قيمة أفضلية عليه لتتحوّل المعادلة لديه من أنا لديها جسد إلى أنا متجسّدة ومتداخلة تداخلا ليس بقابل للفصل أو التفاضل مع الجسد حيث يقول موريس ميرلوپونتي في كتاب: (المرئي واللامرئي ـ ص239)
إذا كنّا ندرك بالجسد، فإنّ الجسد… بمثابة الذات التي تدرك
نظرا لأنّ المفهوم القديم للنفس أو للوعي لا يمكن أن يدرك في معزل عن الجسد والجسد بمفرده الخالي من الوعي لا يدرك هو الآخر لأنّه مجرّد جثّة لذلك يميّز ميرلوبونتي بين الجسد الموضوع الذي هو مجال الدراسة العلمية في المختبرات التشريحية، والجسد الخاصّ المتفاعل مع مفهوم الوعي الذي يجعل منه ذاتا متجسّدة وجسد مذوّت الذي به:
تتعارض تجربة الجسد الخاص مع الحركة التأمليّة التي تخلّص الموضوع من الذات والذات من الموضوع والتي لا تمنحنا إلاّ فكر الجسد أو الجسد في الفكرة لا تجربة الجسد أو الجسد على حقيقته
(موريس ميرلوپونتي ـ فينومينولوجيا الإدراك ـ ص231)
إنّ الحقيقة الفعليّة للجسد وفق هذا التصوّر هي الحقيقة المؤكّدة للجسد الخاصّ كإنيّة متجسّدة فاعلة ومنفعلة ”فيّ“ و بمشهد العالم الذي يكون طابعا في أجسادنا و مطبوعا بها وذلك هو المعنى الحقيقي للبينجسديّة التي هي علاقة وجودية بين أجساد العالم التي تتقاطع و تتداخل وفق جدلية الرائي و المرئي ـ اللامس و الملموس ـ المصافح و المصافح. لئن حاولت الفينومينولوجيا الاشتغال على ثالوث الوعي ـ الجسد ـ العالم تأسيسا لعلاقة بينذاتية و بينجسدية بين الإنيّة و الغيريّة و فكّا للحصار الذي لازم تاريخ الوعي طيلة تاريخ الفلسفة فإنّ مدرسة التحليل النفسي مع قطبها المحلل النفساني "سيڤموند فرويد" كانت قد اشتغلت و في نفس الفترة تقريبا على ثالوث آخر هو ثالوث الهوـ الأنا ـ الأنا الأعلى ـ هذه البنية المميّزة للجهاز النفسي التي ستؤسّس علاقة لا واعية في مجملها مع الغير لينقلب الوضع من بينذاتية و بينجسدية واعية بالآخر إلـى “بينجنسية" لا واعية يتحوّل ضمنها الغير إلي مجال للرغبات و النزوع الجنسي المكبوت إن لم يكن مجالا للعدوان و العنف الناتج لا عن ممارسة واعية بل عن عُقَد مُضمرَة في الخزّان اللاشعوري للإنسان الذي يمكن أن ينفلت من دائرة الرقابة الفردية ليصبح شحنة تدميرية أو إبداعية يمكن أن تستهدف الغير كما يمكن أن تنقلب بصورة عكسية على الذات نفسها.
وفق هذا المنظور بدأت مواضيع تثير افتزاز الخطاب الفلسفي من قبيل موضوع الجنس، بالتالي أصبح من الأهمية والضرورة البحث في هذا المجال، فقد عبرت الفينومينولوجية الميرلوبونتية أصدق تعبير عن هذا الغرض، فكيف نظر رائد الفينومينولوجية الفرنسية ميرلوبونتي إلى موضوع الجنس باعتباره وظيفة أساسية في حياة الإنسان ؟