غادامير في العالم العربي | جمال الشاكري

الحجم

غادامير في العالم العربي

غادامير في العالم العربي جمال الشاكري مقال في الفلسفة

تمهيد

قبل الخوض في موضوع الهيرمينوطيقا في العالم العربي، وبوجه خاص في الفترة المعاصرة، حيث ينبغي التمييز بين التأويل الدغمائي الذي قد يكون قديما وقد يكون حديثا من جهة، ومن جهة أخرى بين التأويل المعاصر المنفتح، والذي يستدعي مناهج جديدة من أجل تأويل التراث عموما، والنص القرآني بصفة خاصة، هذا الأمر لم تشهده البيئة العربية الإسلامية فحسب، بل حتى البيئة الغربية المسيحية. إن التغير الذي سنتحدث عنه في هذه الورقة، يتعلق بالمنهج الذي  يوظفه المؤول في تعامله مع النص المقدس، بالإضافة إلى النقد الذي سيوجهه المؤولون الجدد إلى التأويل والتفاسير الدغمائية قديما وحديثا،  بغض النظر عن أين، حيث الامر هنا يرتبط بعالمين، سواء العربي الإسلامي أو المسيحي،  فنظرا لكثرة النماذج، سوف نعمل على تقديم نموذجين منها، قد خاضا في مهمة التأويل، ولهذه النماذج مبرراتها في ذلك. فما هي الدوافع التي استدعت إعادة الفهم والتأويل للنص المقدس؟

النموذج الأول: رودولف بولتمان

يعد ردولف بولتمان (RUDOLF BULTMANN (1884-1976، أحد النماذج الأساسية في التأويلية المعاصرة، وقد اتجه هذا اللاهوتي الألماني إلى إعادة تأويل الكتاب المقدس بطريقة تتجاوز تأويل  الألفية الثانية، حيث ينطلق من إشكالية العلاقة بين العقل والنقل، وله محاضرة  في ذلك تحت عنوان:" مفهوم الوحي في العهد الجديد" في البداية يتجه نقد بولتمان للمذهب العقلاني والمذهب المثالي الرومانسي باعتبارهما أساس اللاهوت الليبرالي، هذا الأخير عبارة عن إعادة بناء الإيمان على ضوء الثقافة الحديثة، أي رفض وتخلي على كل ما لا يناسب العصر الحالي، وإعادة تشكيل ما يمكن تشكيله لكي يناسب العصر الحالي، حيث جعلت –الليبرالية- الحكم والمعيار للفرد، كما حاولت جعل رسالة الإنجيل تواكب تطورات المجتمع المعاصر، حيث متغيرة بتغير الشروط والظروف التي تحكم كل عصر [1].
    إن النقد الذي وجهه لهذا اللاهوت فهو يخص أسسه، فالنقد الذي وجهه للمذهب العقلاني، يتجلى في رفضه للتصور القائل، بأن الإنسان لم تعد لمعرفته، حيث له القدرة على معرفة كل شيء، وأصبحت فكرة الوحي من دون معنى، يرفض بولتمان هذا الكلام معتبرا الوحي فائق الطبيعة، وبالتالي لا يمكن للوحي يخض للعقلنة بل الخشوع، حتى يتسنى للإنسان طرح سؤال الوحي بشكل مفتوح، كما أنه يرى بأن فكرة الوحي لا يمكن أن تتطابق اللاعقلانية، لأن مساءلة الإلهيات حسب هذا المنهج، تجعل الإنسان لا يساءل غير ذاته وفقط[2].
أما فيما يخص المذهب المثالي الرومانسي فقد رفض عندهم مسألة الوحي كتجلي للروح المطلقة، حيث أصبح الوحي كروح تتجلى عبر الأفعال، وفي هذه الحالة يكفي للإنسان أن يعود إلى ذاته لاكتشاف الله الكامن فيه، لكن بولتمان ينظر للإنسان بهذا الفعل في حالة هرب من زمانه، ويمكن الإشارة هنا إلى ما تم رفضه من أفكار اللاهوت الليبرالي، المسألة التي تتعلق بالإنسان باعتباره ذو قدرات محدودة أمام الوحي، وهذا الأخير يضعه في خضم الحياة الإلهية[3].
من خلال ما سبق يمكن القول إن هذه النظريات تحاول فهم الإنسان من خلال فهم وحدوده وأصالته، ومن هنا يتساءل بولتمان عن أين تكمن حدود الإنسان؟ وينظر هذا الأخير إلى الإنسان ككائن باعتباره جزء من تاريخ العالم، كما هو عند اللاهوت الليبرالي، بل له تاريخه الخاص الذي يتحقق في وجوده، يقول صاحب المقال: «أي في لقاءاته التي تساءله حول الطريقة التي يأتي بها من ماضيه إلى حاضره، والتي توجب قراره. ومسألة القرار محورية لمفهوم الإنسان ككائن تاريخي، وقد استعماره بولتمان من زميله القديم، الفيلسوف مارتن هايدغر، الذي يعتبر كيان الإنسان وجودا (ex-sistre)، أي قدرة -وجود، أو قدرة-قرار[4]." أما فيما يخص مسألة الأصالة، فإن الكائن يمكنه ان يقرر بين وجود أصيل ووجود غير أصيل، لكن بولتمان سوف يحتفظ ببعض هذه الرؤيا الهايدغرية، من قبيل الكائن البشري ك «قدرة-قرار"، حيث سيعطي معنى جديدا لمفهوم الأصالة، فإذا كانت مع هايدغر تعني أن الكائن يفهم ذاته من ذاته، لا من خلال ما هو خارجي من العالم، أما بولتمان فسوف يرى بأن أصالة الإنسان تنبع بالنسبة للإيمان من الله
إن الإنسان يحقق ذاتيته الأصيلة حسب اللاهوتي الألماني، في اللحظة التي تستدعي فيها قراره، وهو ضمن هذه اللحظة التي يتم اقتلاعه من الماضي، والانفتاح على المستقبل، للالتقاء مع الله، لهذا دعا بولتمان إلى فهم الوحي في خضم تاريخية الإنسان، لأن اللقاء مع الله لا يمكن أن يكون ماضيا، بل في كل لحظة لقاء مع الله من المستقبل الإلهي، وبالتالي الإيمان المسيحي هو عمل إرادة وتصميم، وقرار بالتحديد، أي إجابة عن كلمة الله، وقبول دعوة الله، بغض النظر عن الطريق التي يلمس بها الإنسان من نداء الإيمان.
أما فيما يخص النقد الذي وجهه بولتمان للاهوت الطبيعي، يجلى في إقرار هذا الأخير بمعرفة الخالق من خلال الخليقة، وهنا يتم التعامل مع المعرفة الإلهية كمادة معرفية، وبالتالي إذا تم الإقرار بذلك يصبح الله ظاهرة من ظواهر العالم، لكن لما كانت الفلسفة كإمكانية إنسانية يحاول من خلاله الإنسان فهم الإيمان بالله، في هذه المسألة يتحدث عن غياب قدرة طبيعية تمكن الإنسان من معرفة الله، بل لديه إمكانية فهم للدعوة المسيحية والتي مصدرها خبرته الوجودية[5].
إن أسس الفهم الحقيقي حسب بولتمان هي الدعوة المسيحية الحقة، ويتحقق هذا الفهم من خلال الإيمان، لما كان الإنسان يتحدث عن الله من خلال دافع يتعلق بقلق وجودي ( المصير، الشر....)، فإن الإنسان من وجهة نظر بولتمان يسقط على ذاته ووجوده، وهذا هو الأمر الذي قام به اللاهوت الطبيعي، وبالتالي فهو يرفض أن تكون هناك علاقة بين المعرفة الافتراضية لله والإيمان المسيحي، لأنه إذا تم الإقرار بوجود علاقة، ينبغي التسليم إذن بأن الإيمان المسيحي جزء من التاريخ الإنساني، لكن لما كان الإنسان محدود الإمكانيات في الوجود، يقول أنطوان فليفل: "فعندما يختبر الإنسان محدوديته في الوجود، يطرح على ذاته سؤال ما يتخطى هذه الحدود، وهنا سؤال الله. ولكن السؤال ليس جوابا، ويمكن فقط للإيمان بإله يسوع المسيح-وهو ليس معطى من هذا العالم أو إسقاط ذات إنسا نيس-أن يكون الإجابة الصحيحة لسؤال الإنسان الوجودي حول الله"[6]. هذا يعني أن بولتمان يرى أن الإجابة الحقيقية على سؤال الله تتحقق من خلال الإيمان بيسوع المسيح لأنه متنزه عن ذاتية الإنسان وإسقاطاته.
ينظر بولتمان إلى الفلسفة واللاهوت الطبيعي، على أنهما يتناولان مسألة الوجود بشكل العلمي، لكن بنظرتين مختلفتين فالأولى تنظر للإنسان سواء بشكل على أنه موضوع للفهم، وهي تتحدث عن محدوديته، في حين يتناول اللاهوت الطبيعي مسألة مغفرة الخطايا، فالفلسفة تتناول مفهوم التبرير في المقابل يتحدث اللاهوت عن حدث التبرير متمثل في المسيح، لكن الفلسفة رغم قدرتها على ملاحظة الإيمان باعتباره ظاهرة تخص الإنسان، إلا أنها تظل عاجزة عن فهم حدث الإيمان الذي لا يدرك إلا بالإيمان، لأنه ليس بظاهرة من الوجود.
حينما يدرك الإنسان بأنه كائن فان تجده يتكلم عن إله أزلي، إلا أن هذا الله مجرد كإسقاط لذاتية الإنسان، إن النقص يدفع الإنسان للحديث عن الكمال.... وبالتالي يسعى الإنسان إلى الهروب من دنياه بواسطة التأمل الفكري، وهنا نكون أمام الاختبار الصوفي، لكن لا يمكن الحديث عن الله في غياب الوحي، لأنه يظل حديث في عمقه إسقاط لذاتية الإنسان، وهذا القول يظل في منظور الإيمان المسيحي معرفة غير حقيقية، بل مجرد سؤال عن الله، من خلال هذا السؤال يمكن الحديث عن معرفة الله الوجودية التي تلازم تاريخية الكائن البشري، وهكذا يحدث تغير غي التفكر في مسألة الوحي، لأن الله يتدخل ليعطي إجابة للإنسان عن سؤاله، ويدفعه ككائن تاريخي إلى القرار، حيث يستجيب الإنسان إلى دعوة الله لا بواسطة عقله أو أحاسيسه، أو تصوفه، بل من خلال إرادته، كما أن هذه الاستجابة لم يعد مصدرها هو ضعف الإنسان، بل إيمانه، وبالتالي الوحي يكشف وجه الله المغاير للتصور الأخلاقي لله.
إن المؤمن حسب بولتمان عندما يقر بأن الله قدوس فهو يسلم بأن الإنسان خاطئ، ولما يتكلم الإنسان عن محدوديته ويتحدث آن ذاك عن الله الأزلي، فهو إقرار غير حقيقي لأن الإنسان يسعى فقط لأجل الخروج والهروب من الزمانية والتاريخية، لكن في الإيمان المسيحي أزلية الله تأتي إلى الإنسان وتلاقيه في وجوده، هنا تتجلى قدرة الله على مغفرة الخطايا، وتظهر حدود الإنسان، كما أنه يتحول إلى كائن نهوي، من خلال إقراره بأزلية الله عبر الوحي من الذي يجلى في يسوع المسيح.[7]
لقد تجاوز بولتمان فكرة هايدغر القائلة بأن الإنسان يستمد أصالته من أخذه قراراته انطلاقا من ذاته، لا انطلاقا من العالم، بمعنى أخر أن الطريقة أو الكيفية التي تجعل الإنسان يفكر في الوجود، تمثل عائقا يمنع الإنسان من إقامة  علاقة أصيلة بالوجود، فالميتافيزيقا تفكر في الموجود بما هو موجود، أي تبحث عن أساس الموجود وتطلق عليه اسم الوجود، الذي يوجد الشيء ويظهر وجوده، وتغفل حقيقة الوجود، بما هو انسحاب للموجود، وأثناء هذا الانسحاب يكشف عن شيء أخر هو الأساس في صورة العلة والمعلول، وقد اتخذ هذا الأساس أشكالا عدة عبر تاريخ الميتافيزيقا، ينظر إليها هايدغر على أنها سارت في اتجاهات خاطئة، مع أرسطو اتخذ صورة المحرك الأول، مع الفلاسفة الوسطيون اتخذ صور صورة الإله، ومع كنط اتخذ معنى السبب الترنسندنتالي، فحين مع هيجل اتخذ صورة الحركة الجدلية للروح المطلق، كما اتخذ مع ماركس صورة تفسير عملية الإنتاج، ومع نتشه اتخذ صورة إرادة القوة، حيث يمثل هذا الأخير نهاية الميتافيزيقا الغربية في منظور هايدغر[8]. ولما كانت الخاصية التي تميز التفكير الميتافيزيقي هي بحثه عن سبب الموجود، فهو يتصور هذا الموجود فقط من جهة وجوده أو كينونته، وهنا يتم إغفال الجانب المظلم، هكذا فنهاية الميتافيزيقا لا يعني أفول الفلسفة، بل وصلت إلى الموضع الذي الموضع الذي يجتمع تاريخها كله في أقصى إمكانياته، وهذا لا يعني أنها اكتملت، بل مثلها مثل الأدب تعبر عن شيء يحمل ضرورته في ذاته، يمكن تعزيز هذا الكلام بقول غادامير الآتي: "بين تحليل هايدغر الزماني للدزاين، بحسب اعتقادي، أن الفهم ليس فقط فهما لسلوكيات الذات الممكنة والمتنوعة، بل هو نمط وجود الدزاين نفسه. وإنه لهذا المعنى استعمل مصطلح التأويلية هنا. فهو يدل على الوجود الحيوي الأساسي للدزاين الذي يشكل تناهيه وتاريخيه، ومن تم فهو يشمل مجمل تجربته للعالم."[9] لكن بولتمان جاء بفكرة أخرى مفادها أن حتى قرارات الإنسان الذاتية لا تجعل منه كائنا أصيلا، لأن ذات الإنسان جزء من العالم، وبالتالي فأصالته يستمدها من خلال الإيمان بأن قدرة الله الكلية وقدسيته وأزليته الأصيلة، ويصبح وجود الإنسان ككائن نهيويّا فهو يبقى في العالم مع أنه ليس جزءًا منه، وهنا في اعتقادي أن بولتمان يتناول مسألة الأصالة من زاوية نظر مسيحية، حيث يتم النظر إلى الإنسان كجزء من الإله.
خلاصة القول إن بولتمان قدم تصورا جديدا للوحي المسيحي، متجاوزا التصور الصوفي، والوجودي للوحي، وأيضا تصور اللاهوت الليبرالي، من خلال عمله على تبيان العلاقة بين الإنسان والوحي، التي ينظر إليها على أنها علاقة التقاء الله بالإنسان عن طريق الوحي الذي يتجلى في يسوع المسيح، كما تصبح أصالة الإنسان ذات مصدر إلهي، ولا شيء غير ذلك.  إذن هل يمكننا الحديث عن هيرمينوطيقا في العالم العربي الإسلامي؟ طبعا نعم، لكن إلى أي حد استفادت الهيرمينوطيقا العربية من النظريات التأويلية الجديدة في قرأتها للتراث؟ وهنا يستدعي الأمر منا، الانفتاح على نموذج أخر في البيئة العربية الإسلامية.
التالي
تعديل
author-img
Pets Queen
google-playkhamsatmostaqltradent