في مفهوم النظرية
من دلالات المفهوم الى الطرح الإشكالي
يدل لفظ النظرية أو النظر، في لغة الحياة اليومية، على الرأي والحكم والقول. «فما قولك؟» و «ما رأيك؟» و «ما نظرك؟»، هي أسئلة ترد في الحديث اليومي مترادفة. فالنظرية هي إذن تفكير أو حكم أو رأي يعبر عنه بالقول والكلام. بهذا المعنى يضع الحس المشترك النظرية في مقابل الفعل أو العمل. وتأخذ النظرية في هذا التقابل، حين ترتبط بالفعل والعمل (يرتبط القول بالفعل كما يقال)، معنى إيجابيا. وحين لا ترتبط بالفعل والعمل، تأخذ معنى قدحيا، فتدل على نظرة تبسيطية سطحية إلى الأشياء غير مطابقة للواقع، أو على تصور خيالي ذاتي. فالشخص النظري بهذا المعنى هو المتأمل الحالم، السطحي، الساذج، العديم الفعالية المتذبذب، الضعيف الإرادة، يقول مالا يفعل، أو مالا يمكن أن يفعل. يتضمن هذا المعنى التحقيري للنظرية شيئين:- أن العمل أو الفعل، بالنسبة للحس المشترك، أرفع قيمة وأكثر أهمية وأجدي نفعا من النظرية العقيمة
- أن النظرية حين تقترن بالفعل تكتسي أهمية بالغة، بحيث تكون بمثابة البصر بالنسبة إلى المشي.
فالنظرية في التمثل المشترك أداة للفعل والعمل، ويجب أن تكون كذلك وأن تنحصر في حدود ذلك، وإلا فقدت قيمتها وانقلبت عيبا ونقصا. فهي تابعة للعمل والتطبيق، مرتبطة بالمنفعة والفائدة والفعالية العملية التطبيقية.
على عكس ذلك أكدت الفلسفة، وخاصة في بداية نشأتها عند اليونان، على أهمية النظرية الخالصة التأملية اللانفعية، ومنحتها قيمة عليا بالنسبة إلى العمل التطبيقي المنفعي الخالص. فقد كتب أرسطو في الميتافيزيقا : «الإنسان الذي يهتدي بمعطيات فن (علم) من الفنون أعلى ممن يتبعون التجربة وحدها، فالمهندس فوق العمال اليدويين، والعلوم النظرية فوق العلوم العملية الخالصة.»
ما مصدر هذا التعارض والتناقض في الموقف من النظرية؟ إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي تحديدا دقيقا لمدلول النظرية لغويا وفلسفيا.
لفظ النظرية في الفلسفة العربية مشتق من «النظر»، أي من فعل الرؤية والملاحظة بالعين، وكلمة Theorie هي كتابة فرنسية لكلمة Theoria الإغريقية المشتقة من فعل Theorein بمعنى نظر ولاحظ، ثم تأمل، وفي الدلالة الإصطلاحية المعجمية تدل النظرية في العربية على: «ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم. وقيل النظر ... طلب علم عن علم ... والبحث.» (لسان العرب لابن منظور). وفي اللغة الفرنسية تعني النظرية Théorie في معنى أول : «مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة المنظمة قليلا أو كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص.» وفي معنى ثان : «بناء عقليا منظما ذا طابع فرضي ... تركيبي .» (معجم روبر)
نلاحظ أن هاتين الدلاليتين الاصطلاحيتين لا تعود لهما علاقة بفعل النظر الذي اشتقت منه كلمة النظرية. إذ ما العلاقة بين العلم والأفكار والمفاهيم المجردة، والبناء العقلي المنهجي المنظم التركيبي الفرضي، وبين فعل النظر والرؤية بالعين ؟ لعل في الأمر استعارة. أي أن خاصية فعل النظر بالعين استعير للدلالة على فعل الفكر أو العقل القائم على البناء المفاهيمي المنهجي التركيبي المجرد. ما هي هذه الخاصية؟ نستطيع أن نستخلصها من معنى المفاهيم المجردة الكلية ومن معني التركيب. فالأمر يتعلق هنا بما هو كلي عام وإجمالي، أي ما يمكن من الإحاطة الشاملة بميدان أو مجال من الواقع. وذلك بالفعل ما تؤديه الرؤية والنظر بالعين. إذ تمكن الإنسان في المستوى الإدراكي الحسي، من الإحاطة دفعة واحدة بمجال إدراكي في جملته، وخاصة إذا كان الإنسان في مكان مرتفع (فوق جبل أو في طائرة) يسمح له بتوسيع أفق إدراكه البصري.
ما مصدر هذا التعارض والتناقض في الموقف من النظرية؟ إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي تحديدا دقيقا لمدلول النظرية لغويا وفلسفيا.
لفظ النظرية في الفلسفة العربية مشتق من «النظر»، أي من فعل الرؤية والملاحظة بالعين، وكلمة Theorie هي كتابة فرنسية لكلمة Theoria الإغريقية المشتقة من فعل Theorein بمعنى نظر ولاحظ، ثم تأمل، وفي الدلالة الإصطلاحية المعجمية تدل النظرية في العربية على: «ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم. وقيل النظر ... طلب علم عن علم ... والبحث.» (لسان العرب لابن منظور). وفي اللغة الفرنسية تعني النظرية Théorie في معنى أول : «مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة المنظمة قليلا أو كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص.» وفي معنى ثان : «بناء عقليا منظما ذا طابع فرضي ... تركيبي .» (معجم روبر)
نلاحظ أن هاتين الدلاليتين الاصطلاحيتين لا تعود لهما علاقة بفعل النظر الذي اشتقت منه كلمة النظرية. إذ ما العلاقة بين العلم والأفكار والمفاهيم المجردة، والبناء العقلي المنهجي المنظم التركيبي الفرضي، وبين فعل النظر والرؤية بالعين ؟ لعل في الأمر استعارة. أي أن خاصية فعل النظر بالعين استعير للدلالة على فعل الفكر أو العقل القائم على البناء المفاهيمي المنهجي التركيبي المجرد. ما هي هذه الخاصية؟ نستطيع أن نستخلصها من معنى المفاهيم المجردة الكلية ومن معني التركيب. فالأمر يتعلق هنا بما هو كلي عام وإجمالي، أي ما يمكن من الإحاطة الشاملة بميدان أو مجال من الواقع. وذلك بالفعل ما تؤديه الرؤية والنظر بالعين. إذ تمكن الإنسان في المستوى الإدراكي الحسي، من الإحاطة دفعة واحدة بمجال إدراكي في جملته، وخاصة إذا كان الإنسان في مكان مرتفع (فوق جبل أو في طائرة) يسمح له بتوسيع أفق إدراكه البصري.
غير أن التشابه يتوقف عند هذا الحد. ذلك لأن النظرية كفعل للعقل والفكر تتخطى، بفضل المفاهيم الكلية المجردة وبفضل طابعها التركيبي والفرضي، مجال الحقل الإدراك الحسي مهما اتسع وامتد فالنظرية، في تعاملها مع ما هو كلي مجرد، تتجاوز ماهو فردي جزئي، وتتجاوز الظاهر إلى الأسباب العميقة لما يدرك بالعين.
تبرز هذه الخصائص المميزة للنظرية أو النظر العقلي عن النظر الحسي، بوضوح أكبر في الدلالة الفلسفية للنظرية. فقد حدد لا لاند في معجمه الفلسفي النظرية بأنها : «إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ». ويعرض بعد ذلك خمسة مقابلات للنظرية يمكن تلخيصها كما يلي: تتقابل النظرية مع الممارسة أو التطبيق بمعنييهما المنفعي والأخلاقي. فالنظرية على عكس الممارسة والتطبيق منزهة عن المنفعة، مستقلة عن تطبيقاتها، وهي حق خالص وخير لذاتها. ثم تتقابل النظرية مع المعرفة العامية الأنها، على عكس هذه الأخيرة، منهجية ومنظمة تتوقف من حيث شكلها على بعض القرارات والمواضعات العلمية التي لا تنتمي إلى الحس المشترك وتتقابل النظرية مع المعرفة اليقينية، لكونها النظرية بناء فرضيا أو رأيا لعالم أو فيلسوف، حول مسألة متنازع عليها. وأخيرا تتقابل النظرية مع الجزئيات والتفاصيل العلمية، من حيث إنها تركيب عريض يسعى إلى تفسير عدد كبير من الوقائع، يسلم بها كفرضية محتملة الصدق من طرف معظم علماء عصر معين.
ويمكن أن نضيف إلى هذا التعريف تعريف ابن رشد للنظر العقلي : «وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من استيناط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس... فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي.
وبين أن هذا النحو من النظر، الذي دعا إليه الشرع وحث عليه، هو أتم أنواع النظر بأثم أنواع القياس، وهو المسمى برهانا». (فصل المقال).
فالنظرية هي إذن بناء عقلي مفاهيمي مجرد تركيبي استدلالي فرضي، وإذا غضضنا النظر مؤقتا عن التعارض بين هذا الطابع الفرضي الاحتمالي غير اليقيني الذي تتبدئ به النظرية في تعريف لا لاند، وبين طابعها البرهاني اليقيني عند ابن رشد بسبب اختلاف السياق الفلسفي الحديث عن السياق الفلسفي الوسطوي الأرسطي)، فإن التقابلات التي يتضمنها المفهوم الفلسفي للنظرية، تدفع إلى طرح الأسئلة الفلسفية التالية (والتي تتشكل من مجموعها المترابط الإشكالية الفلسفية للنظرية) : هل تنفصل النظرية عن الممارسة بصورة طبيعية أو بكيفية مصطنعة ومتعمدة؟ وفي كلتا الحالتين ما هي وظائف النظرية وكيف تؤديها؟ وإذا كانت النظرية ربطا لنتائج أو ظواهر بمبادئ، فمن أين تستمد النظرية هذه المبادئ : من الواقع أم من الفكر، من التجربة أم من العقل ؟ ماعلاقة النظرية بالواقع الذي تسعى إلى تفسيره : أهي صورة مطابقة له أم إنشاء عقلي حر ؟ هل تتنوع النظرية بتنوع مجالاتها أم لا ؟ هل هي ثابتة أم متغيرة ؟
النظرية والممارسة
ارتباط النظرية بالفكر يفترض، مبدئيا، أن ترتبط النظرية بالممارسة بحكم أن الإنسان كائن مفكر عامل في آن واحد. وهذا ما يؤكده ابن خلدون: (..الأفعال منها منتظم ومرتب، وهي الأفعال البشرية... ذلك لأن الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع أو بالوضع. فإذا قصد [إنسان] إيجاد شيء.. فلأجل الترتيب بين الحوادث، فلابد له أن يتفطن بسببه أو علته أو شرطه، وهي، على الجملة، مبادئه، إذ لا يوجد الاثانيا عنها..» وإذا كانت مبادئ الشيء متعددة ومتسلسلة تعقبها الفكر إلى آخرها حيث ينبغي للعمل أن يبدأ (سقف البيت، الحائط، الأساس)، لذلك فإن: «أول العمل أخر الفكرة، وآخر الفكرة أول العمل. فلا يتم فعل للإنسان في الخارج إلا بالفكر»، على هذا الأساس يبدو إذن أن النظرية لا تنفصل، في الواقع، عن الممارسة العملية البشرية، بل هي جزء منها مكمل لها.
فالممارسة أو التجربة الخالصة المستغنية عن النظرية لا وجود لها إلا لدى المتصوفة وفي لحظات الوجد والغيبوبة، حين تنقطع صلتهم بالعالم والآخرين، وحتى بجدسهم وذواتهم. أما في الأحوال العادية فإنه ما من فعل أو عمل معقد أو بسيط، تلقائي أو تقني، إلا و يتضمن حدا أدنى من النظرية. وذلك يبينه مالينوفسكي، كما يبينه أيضا بياجيه في علم النفس التكويني: إن عملية المعرفة تتم عن طريق استيعاب الواقع، أي إدماجه في بنيات ذهنية سابقة. أي أن المعرفة (النظرية) تنشأ بوايطة العمل و من خلاله.
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تقدم النظرية في دلالتها الفلسفية، بوصفها منفصلة عن الممارسة العملية، خالصة من المنفعة ومطالبها؟ لابد وأن في الممارسة أو التجربة العملية شيئا جعل العلم والفلسفة والتفكير النظري المتخصص عموما، ينظر الى الممارسة أو التجربة نظرة انتقاصية تحقيرية. يبرر باشلار ضرورة انفصال النظرية (المعرفة) عن العلمية عن الممارسة أو التجربة العادية بقوله: ”إن النزوعات العادية للمعرفة لا يمكن لها، إذ تستمد حوافزها من النزعة النفعية..، أن تكون انطلاقتها وكذا الاتجاه الذي تسير فيه، إلا خاطئين.“ إن هذه المعرفة لا تنتج إلا بادئ الرأي، ”وبادئ الرأي مخطئ، من حيث المبدأ دائما، إنه يفكر تفكيرا سيئا، بل إنه لا يفكر، وإنما يترجم حاجات إلى معارف.“
على هذا يمكن التمييز في النظرية بين مستويين:
ليس للقانون مفهوم واحد عام، بل مفاهيم تتعدد بتعدد المجالات التي يستخدم فيها. فهو في المجال الحقوقي قاعدة منبثقة من سلطة عليا تنظم مجتمعا معينا، وهو في المجال الأخلاقي قاعدة معيارية تحدد ما يجب أن يفعله الكائن العاقل الفاعل الحر، وفي المجال المنطقي يعني القانون المعيار أو المبدأ الكوني للتفكير مثل مبدأ الهوية وعدم التناقض. وفي العلم يدل القانون، حسب تعريف أوجيست كونت على: ”علاقة ثابتة بين الظواهر الملاحظة“.
تلتقي مختلف مفاهيم القانون مع المبدأ، إلا أن هذا الأخير يشمل بالإضافة الى ذلك، على معنى السبب أو العلة، ولذلك يختلف القانون في معناه العلمي كما حدده أوجيست كونت، عن المبدأ، لأن تحديد كونت للقانون العلمي بوصفه "علاقة" كان الهدف منه بالضبظ هو استبعاد مفهوم السبب أو العلة، باعتباره ميتافيزيقيا غيبيا. وتبعا لذلك استبعد كونت أيضا التفسير باعتباره ربطا لظاهرة (معلول) بعلتها، واستبدل به مفهوم الوصف، أي الوقوف عند ملاحظة العلاقات بين الظواهر (القوانين) دون البحث عن أسبابها أو عللها الخفية.
وإذا اقتصرنا على المفهوم العلمي للقانون فإننا نجده يتميز بالخصائص التالية: الكلية (ينطبق في كل مكان وزمان)، والجواز (مقابل القانون المنطقي الضروري)، وقابلية الإثبات بالتجربة، والتكميم.
حين تقتصر النظرية العلمية إذن على تركيب مجموعة من القوانين تكون وصفية، وحين تربط هذه القوانين بمبدأ يفسرها تكون تفسيرية، وحين تتيح التنبؤ بظواهر جديدة انطلاقا من بناء نماذج لانتظامات ظواهر حاضرة، تكون تنبؤية.
غير أن تعدد المجالات العلمية واختلاف العلوم منهجا وموضوعا، يجعل هذا التصنيف للنظريات تبعا لوظائفها وبنائها، نسبيا، ذلك لأن النظريات الرياضية يمكن اعتبارها، في مجال الرياضيات المحضة وصفية، وفي مجال الرياضيات التطبيقية تنبؤية تفسيرية. وفي العلوم البيولوجية يصطدم بناء النظريات بمشكل الغائية الذي تكشف عنه الظواهر الحية، بحيث تظل ذات طابع فرضي. ويزداد التعقيد في العلوم الإنسانية، حيث يتعذر القياس و التكميم والتجريد والتعميم والتنبؤ الدقيق -وهي شروط بناء النظرية العلمية- إلى حد أن العلوم الإنسانية تبحث لها عن نموذج جديد للعلمية يختلف عن نموذج العلوم الدقيقة.
ومهما يكن فإن النظرية العلمية تظل محاولة لتكوين صورة أو نموذج عقلي للواقع، أو لمجموعة من الظواهر. غير أن تقدم العلوم في العصر الراهن، جعل العلاقة بين النظرية والواقع موضع نقاش ابستمولوجي فلسفي.
غير أن الطابع التركيبي للنظرية يجعل من المستحيل تقريبا التحقق من صدقها أو كذبها بواسطة التجربة. إذ لا يعلم أي جانب تثبته التجربة أو تكذبه من النظرية. لذلك اقترح بوبر، كحل لهذا الاشكال الابستمولوجي، ما سماه مبدأ التزييف أو التكذيب. وهو أن معيار صلاحية نظرية علمية ما ليس هو مطابقتها للتجرية، بل قابليتها، من حيث المبدأ، للتكذيب، حتى وإن لم تكذب فعلا. أي أن تتضمن، في منطوقها، إمكانية البحث عن وقائع أو إنشاء تجارب تكذبها.
ولكن التطورات الأخيرة للفيزياء الميكروسكوبية (الذرية)، جعلت مفهوم الواقع يفقد معناه العادي المباشر. فإذا كانت الظواهر الماكروسكوبية تبدو ثابتة، نوعا ما، وقابلة للتعيين في الزمان والمكان كأشياء لها فرديتها وخصائص المميزة الثابتة نسبيا، فإن الظواهر الميكروسكوبية (الجسيمات أو الصغائر : الإلكترونات، الفوتونات مثلا) تفقد كل ذلك. إنها تكاد تتلاشى، وتفقد كل فردية أو تميز، ويكاد يتعذر تصورها على غرار أشياء العالم الماكروسكوبي وظواهره. حيث تبدو الخطاطات الرياضية المجردة التي تعبر عن الالكترون والفوتون مثلا، أكثر واقعية منهما. وهكذا اختفت من العلم تدريجيا مفاهيم «الشيء» و «الجوهر» وحل محلها مفهوم «العلاقة». فالواقع في مفهومه العلمي المعاصر هو شبكة العلاقات التي تنسجها المعادلات والدوال الرياضية، التي تتيح للعقل العلمي أن يشيد أنساقا نظرية فرضية استنتاجية شبيهة بالأنساق الرياضية. في هذه الحالة يفقد المفهوم التقليدي للتجربة معناه : إذ لم تعد التجربة مرجعا لاختبار صدق النظريات أو كذبها، ولا منبعا للنظريات، لأن النظريات أصبحت إنشاءات عقلية حرة، وقابلة لأن تتعدد إلى ما لا نهاية.
لقد صار الواقع في مفهومه العلمي أحد الممكنات التي يستطيع الخيال البشري إبداعها وبناءها. ولذلك تتناسل النظريات العلمية، وكأنما تتولد من الفكر المجرد وحده. غير أن هذا بالتحديد هو ما يجعل الواقع يظل هو المحك والمرجع الأساسي للبت في صلاحية النظريات العلمية، التي يبدو أنها تفنى بنفس السرعة التي تولد بها.
وذلك حتى وإن فقد الواقع مفهومه الحسيوالأنطولوجي الكلاسيكي، وصار هو ذاته محددا بالنظريات العلمية وتابعا لها.
_________
(*) المقال مقتطف من مقرر الفلسفة، الفكر الاسلامي والفلسفة السنة الثالثة ثانوي الشعبة الأدبية الصادر في عام 1996.
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تقدم النظرية في دلالتها الفلسفية، بوصفها منفصلة عن الممارسة العملية، خالصة من المنفعة ومطالبها؟ لابد وأن في الممارسة أو التجربة العملية شيئا جعل العلم والفلسفة والتفكير النظري المتخصص عموما، ينظر الى الممارسة أو التجربة نظرة انتقاصية تحقيرية. يبرر باشلار ضرورة انفصال النظرية (المعرفة) عن العلمية عن الممارسة أو التجربة العادية بقوله: ”إن النزوعات العادية للمعرفة لا يمكن لها، إذ تستمد حوافزها من النزعة النفعية..، أن تكون انطلاقتها وكذا الاتجاه الذي تسير فيه، إلا خاطئين.“ إن هذه المعرفة لا تنتج إلا بادئ الرأي، ”وبادئ الرأي مخطئ، من حيث المبدأ دائما، إنه يفكر تفكيرا سيئا، بل إنه لا يفكر، وإنما يترجم حاجات إلى معارف.“
على هذا يمكن التمييز في النظرية بين مستويين:
- مستوى النظرية المقترنة بالممارسة العملية اليومية النفعية، وهذه النظرية إن تبدو مفيدة للحياة العملية و كافية لها، فإنها لا تفيد في بناء معرفة دقيقة ومؤسسة ومتماسكة عن الواقع. فهي نتيجة لتجربة متراكمة، مختلطة يمكن أن تحتوي بدون وعي أخطاء وأوهام وتناقضات وأحكاما مسبقة تشوه الواقع وتحول دون معرفته على حقيقته بشكل موضوعي.
- ومستوى النظرية العقلية الخالصة، التي يتم إنتاجها في مستوى الفكر المجرد، في استقلال عن المنفعة المباشرة وبناءا على عمليات عقلية استدلالية دقيقة. وهو ما يرشحها أن تتحرر من كافة عيوب المعرفة العامية.
وظائف النظرية
نجد لدى فولكييه في معجمه الفلسفي صيغة أخرى لتعريف النظرية، فلسفيا، يضيف الى تعريف لالاند و ابن رشد، بعض التفاصيل المفيدة: ”النظرية بناء عقلي يتم بواسطته ربط عدد من القوانين بمبدأ، يمكن أن تستنتج منه بدقة وصرامة.“ فالنظرية لا تتألف من مفاهيم وأفكار مجردة فقط، بل من قوانين ومبادئ، تقوم بربطها على نحو استنتاجي، بحيث تكون القوانين نتائج لمبادئ. وإذا أضفنا إلى ذلك أن النظرية تهدف، كما جاء في تعريف لالاند، الى التفسير، تبين أن معرفة كيفية انبناء النظرية وعملها، يتطلب الوقوف عند مفاهيم القانون، والمبدأ، والتفسير.ليس للقانون مفهوم واحد عام، بل مفاهيم تتعدد بتعدد المجالات التي يستخدم فيها. فهو في المجال الحقوقي قاعدة منبثقة من سلطة عليا تنظم مجتمعا معينا، وهو في المجال الأخلاقي قاعدة معيارية تحدد ما يجب أن يفعله الكائن العاقل الفاعل الحر، وفي المجال المنطقي يعني القانون المعيار أو المبدأ الكوني للتفكير مثل مبدأ الهوية وعدم التناقض. وفي العلم يدل القانون، حسب تعريف أوجيست كونت على: ”علاقة ثابتة بين الظواهر الملاحظة“.
تلتقي مختلف مفاهيم القانون مع المبدأ، إلا أن هذا الأخير يشمل بالإضافة الى ذلك، على معنى السبب أو العلة، ولذلك يختلف القانون في معناه العلمي كما حدده أوجيست كونت، عن المبدأ، لأن تحديد كونت للقانون العلمي بوصفه "علاقة" كان الهدف منه بالضبظ هو استبعاد مفهوم السبب أو العلة، باعتباره ميتافيزيقيا غيبيا. وتبعا لذلك استبعد كونت أيضا التفسير باعتباره ربطا لظاهرة (معلول) بعلتها، واستبدل به مفهوم الوصف، أي الوقوف عند ملاحظة العلاقات بين الظواهر (القوانين) دون البحث عن أسبابها أو عللها الخفية.
وإذا اقتصرنا على المفهوم العلمي للقانون فإننا نجده يتميز بالخصائص التالية: الكلية (ينطبق في كل مكان وزمان)، والجواز (مقابل القانون المنطقي الضروري)، وقابلية الإثبات بالتجربة، والتكميم.
حين تقتصر النظرية العلمية إذن على تركيب مجموعة من القوانين تكون وصفية، وحين تربط هذه القوانين بمبدأ يفسرها تكون تفسيرية، وحين تتيح التنبؤ بظواهر جديدة انطلاقا من بناء نماذج لانتظامات ظواهر حاضرة، تكون تنبؤية.
غير أن تعدد المجالات العلمية واختلاف العلوم منهجا وموضوعا، يجعل هذا التصنيف للنظريات تبعا لوظائفها وبنائها، نسبيا، ذلك لأن النظريات الرياضية يمكن اعتبارها، في مجال الرياضيات المحضة وصفية، وفي مجال الرياضيات التطبيقية تنبؤية تفسيرية. وفي العلوم البيولوجية يصطدم بناء النظريات بمشكل الغائية الذي تكشف عنه الظواهر الحية، بحيث تظل ذات طابع فرضي. ويزداد التعقيد في العلوم الإنسانية، حيث يتعذر القياس و التكميم والتجريد والتعميم والتنبؤ الدقيق -وهي شروط بناء النظرية العلمية- إلى حد أن العلوم الإنسانية تبحث لها عن نموذج جديد للعلمية يختلف عن نموذج العلوم الدقيقة.
ومهما يكن فإن النظرية العلمية تظل محاولة لتكوين صورة أو نموذج عقلي للواقع، أو لمجموعة من الظواهر. غير أن تقدم العلوم في العصر الراهن، جعل العلاقة بين النظرية والواقع موضع نقاش ابستمولوجي فلسفي.
النظرية والواقع
من المفروض أن ترتبط كل نظرية علمية بالواقع الذي تتولى وصفه وتفسيره، ما دامت تقوم في بنائها وتركيبها على ربط قوانين هذا الواقع بمبادئ مطابقة له. وثمة بالنسبة الى العلوم التجريبية ما يشبه أمرا بديهيا وهو ضرورة ارتباط النظرية بالتجربة، إذ لا يمكن تصور دراسة الواقع المادي الخارجي دون الاتصال به من خلال التجربة العلمية. وقد أدت التجربة العلمية ومازالت تؤدي دورين رئيسين يبدوان متناقضين، وهما:- أن التجربة العلمية تشكل نقطة انطلاق النظرية العلمية، منها تستمد معطياتها (القوانين) المصاغة صياغة كمية رمزية رياضية في صورة معادلات أو دوال.
- أن التجرية تشكل في نفس الوقت نقطة الوصول بالنسبة للنظرية العلمية، إذ بواسطتها يتم التحقق من صدق أو صلاحية النظرية (الفرضية) أو كذبها.
غير أن الطابع التركيبي للنظرية يجعل من المستحيل تقريبا التحقق من صدقها أو كذبها بواسطة التجربة. إذ لا يعلم أي جانب تثبته التجربة أو تكذبه من النظرية. لذلك اقترح بوبر، كحل لهذا الاشكال الابستمولوجي، ما سماه مبدأ التزييف أو التكذيب. وهو أن معيار صلاحية نظرية علمية ما ليس هو مطابقتها للتجرية، بل قابليتها، من حيث المبدأ، للتكذيب، حتى وإن لم تكذب فعلا. أي أن تتضمن، في منطوقها، إمكانية البحث عن وقائع أو إنشاء تجارب تكذبها.
ولكن التطورات الأخيرة للفيزياء الميكروسكوبية (الذرية)، جعلت مفهوم الواقع يفقد معناه العادي المباشر. فإذا كانت الظواهر الماكروسكوبية تبدو ثابتة، نوعا ما، وقابلة للتعيين في الزمان والمكان كأشياء لها فرديتها وخصائص المميزة الثابتة نسبيا، فإن الظواهر الميكروسكوبية (الجسيمات أو الصغائر : الإلكترونات، الفوتونات مثلا) تفقد كل ذلك. إنها تكاد تتلاشى، وتفقد كل فردية أو تميز، ويكاد يتعذر تصورها على غرار أشياء العالم الماكروسكوبي وظواهره. حيث تبدو الخطاطات الرياضية المجردة التي تعبر عن الالكترون والفوتون مثلا، أكثر واقعية منهما. وهكذا اختفت من العلم تدريجيا مفاهيم «الشيء» و «الجوهر» وحل محلها مفهوم «العلاقة». فالواقع في مفهومه العلمي المعاصر هو شبكة العلاقات التي تنسجها المعادلات والدوال الرياضية، التي تتيح للعقل العلمي أن يشيد أنساقا نظرية فرضية استنتاجية شبيهة بالأنساق الرياضية. في هذه الحالة يفقد المفهوم التقليدي للتجربة معناه : إذ لم تعد التجربة مرجعا لاختبار صدق النظريات أو كذبها، ولا منبعا للنظريات، لأن النظريات أصبحت إنشاءات عقلية حرة، وقابلة لأن تتعدد إلى ما لا نهاية.
لقد صار الواقع في مفهومه العلمي أحد الممكنات التي يستطيع الخيال البشري إبداعها وبناءها. ولذلك تتناسل النظريات العلمية، وكأنما تتولد من الفكر المجرد وحده. غير أن هذا بالتحديد هو ما يجعل الواقع يظل هو المحك والمرجع الأساسي للبت في صلاحية النظريات العلمية، التي يبدو أنها تفنى بنفس السرعة التي تولد بها.
وذلك حتى وإن فقد الواقع مفهومه الحسيوالأنطولوجي الكلاسيكي، وصار هو ذاته محددا بالنظريات العلمية وتابعا لها.
_________
(*) المقال مقتطف من مقرر الفلسفة، الفكر الاسلامي والفلسفة السنة الثالثة ثانوي الشعبة الأدبية الصادر في عام 1996.