إشكالية العلمية في العلوم الإنسانية

مدخل
لا أحد يجادل اليوم في أن مفهوم العلم بدأ ينفصل عن الفلسفة تدريجيا في العصر الحديث على يدي رواد البحث العلمي التجريبي، -وفي مقدمتهم إسحاق نيوتن- الذين لجأوا إلى دراسة الظواهر الطبيعية عن طريق الملاحظة والتجربة واختراع الأجهزة والآلات التي تمكنهم من فهم وتفسير هذه الظواهر[1] وتعتبر لحظة القرن التاسع عشر، بمثابة معلم تاريخي استكملت عبره المعرفة العلمية مشروعها الهادف إلى "السيادة على الطبيعة" وتملكها وتسخيرها من خلال معرفة حقة بقوانينها. كما تعتبر هذه اللحظة التاريخية الإطار المرجعي أو التأسيسي، لبلورة نوع جديد من المعرفة العلمية المختصة بدراسة الظواهر الإنسانية، ومنها بالأخص السوسيولوجيا. وهذا يعني أن هذه اللحظة انتقل فيها الاهتمام من الدراسة المعيارية التأملية، إلى الاهتمام بالدراسة الوصفية التحليلية؛ والتي تتطلب تحديد الموضوعات والمفاهيم والأدوات المنهجية، بهدف صياغة القوانين في شكل نظريات علمية.
وبالرغم من هذا التطور الحاصل في مجال العلوم الطبيعية، إلا أن مشكلة العلوم الإنسانية كانت ومازالت تطرح بقوة ضمن سلسلة الأبحاث والدراسات المنهجية، لأن العلوم الإنسانية كونها حديثة العهد أو النشأة، حيث لم تستقل إلا في بداية القرن التاسع عشر. وفي الوقت الذي شكلت الثورة العلمية التي حدثت في مختلف ميادين المعرفة العلمية الموسومة بكونها علوما حقة ويقينية ما يمكن تسميته بالإغراء النموذجي "النموذج الرياضي والنموذج الفيزيائي"، واجهت العلوم الإنسانية مشكلة المنهج الذي يمكنها من تحقيق صفة العلمية والتوصل إلى نتائج يقينية. الشيء الذي أدى إلى ظهور نقاش حول إشكالية المنهج -كما سنرى في هذه الدراسة- توزع إلى: اتجاه تبنى منهج التفسير على غرار العلوم الطبيعية خاصة مع أنصار النزعة الوضعية، واتجاه آخر رأى أنه من الضروري البحث عن منهج يتلاءم مع خصوصية العلم الجديد.
انطلاقا من هذا التحديد الإبستيمولوجي حول موضوعنا -مشكلة العلوم الإنسانية- يمكننا التوقف عند المساءلة الآتية:
- هل الظواهر الإنسانية مماثلة للظواهر الطبيعية مما يسمح بدراستها كأشياء خارجية باعتماد نموذج منهجي -النموذج الفيزيائي- القائم على طريقة الاستقراء المعتمدة على منهج التحليل والتفسير الذي أثبت نجاعته العلمية في دراسة الظواهر الطبيعية؟
- أم أن الظواهر الإنسانية والاجتماعية مخالفة بطبيعتها وخصوصيتها للظواهر الطبيعية مما يستدعي البحث عن منهج مناسب يتلاءم مع تلك الخصوصية وهو النموذج الاستنباطي القائم على الفهم والتأويل؟
طبيعة الموضوع
إذا كانت العلوم الطبيعية تتصف بالنجاعة واليقين في صياغة قوانين علمية بسبب وضوح موضوع دراستها وإمكانية وجود مساحة فاصلة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، فإن الأمر يختلف كلية في ميدان المعرفة الإنسانية -التي موضوعها الإنسان-، وذلك راجع لعدة عوامل وحيثيات سنحيط ببعضها في هذه المحاولة.
واضح إذن أن موضوع العلوم الإنسانية من خلال تسميتها هو الإنسان، وهذا الأخير يعد من أصعب ما يمكن دراسته أو فهمه، لأن الطبيعة البشرية تتميز بالخصوصية والتميز, كما أن هذه الطبيعة تتباين وتختلف من فرد لآخر ومن بيئة لآخرى؛ لذلك نجد الظواهر التي تخص الإنسان تختلف بحسب الظروف التي يحيا فيها هذا الشخص، حيث تؤثر فيه عدة عوامل؛ منها الثقافي والعقائدي والتقاليد وغيرها من العوامل التي تتحكم في توجيه سلوك الفرد، بالإضافة إلى الوعي والإرادة والشعور والذاكرة ، وغيرها.. كما أن درجة اليقين في مجال العلوم الإنسانية نسبية، لأن النتائج المتوصل إليها تقريبية احتمالية، وتفصح هذه المشكلة عن نفسها أو تتضح أكثر من خلال دراسة بعض الحالات أو بعض الظواهر الإنسانية {انحرافات، جرائم، بطالة، انتحار..} التي تحكمها عوامل وظروف خاصة تجعل من نتائجها في موضع الخصوصية والتفرد. وبالتالي لا يمكن تعميم النتائج المتوصل إليها من طرف المشتغلين في حقل العلوم الإنسانية، لأن هذه الظواهر متغيرة وغير ثابتة حسب الزمان والمكان؛ ومن ثم نحصل على نتائج مغايرة دوما حتى وإن كانت الدراسة مسلطة على نفس الظاهرة المدروسة مثل ظاهرة الانتحار أو الطلاق أو غيرهما. وسبب هذا التناقض أو عدم التطابق على مستوى النتائج كما نقول دائما هو وجود سلوكات ومواقف مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة والتقاليد والعادات والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..
يبدو من خلال هذه المنطلقات أن صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية ترتبط بكيفية أو بأخرى بطبيعة الموضوع الذي يعتبر عائقا في تحقيق مسألة العلمية في العلوم الإنسانية، أي وجود تداخل وتشابك بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، على عكس العلوم الطبيعية التي تتميز بالنزاهة والاستقلالية في هذا الصدد.
وإذا كان ظهور العلوم الإنسانية قد جعل الوضعية والاتجاهات الوظيفية تعتقد بإمكانية موضعة الظاهرة الإنسانية وفصلها ودراستها دراسة علمية تجريبية على منوال العلوم الحقة واليقينية، فإن قيام الإبستمولوجية باعتبارها الدراسة النقدية لمبادئ وفرضيات ونتائج العلوم، قد تنبهت إلى هذه المسألة الخطيرة -وحدة العلوم كما يدعي أصحاب النزعة الوضعية- وعملت على نقدها وطرحت بدائل معرفية تتناسب وطبيعة العلوم الإنسانية على مستوى الموضوع والمنهج . وفي هذا السياق نجد من بين الإبستمولوجيين داخل العلوم الإنسانية، جان بياجي، رائد الإبستمولوجية التكوينية، الذي عبر بكل وضوح وصراحة عن سبب تخلف العلوم الإنسانية أوعن العائق الذي حال دون تحقيق شرط العلمية في هذه العلوم وحصرها في مسألتين أو حسب تعبيره في عائقين هما:
- الذاتية التي يصعب التخلص منها. الذات العارفة -كما أشرنا سلفا- هي نفسها موضوع المعرفة، وبهذا يصعب على الباحث في حقل العلوم الإنسانية إزاحة تمركز الذات وفصلها عن الموضوع، بمقتضى فصل الذات وعزلها عن الموضوع يحصل الحياد والنزاهة والاستقلالية في إصدار الأحكام. وهناك أيضا مسألة أخرى تتعلق بتحقيق الموضوعية ، هي حصول الإجماع والاتفاق من طرف الملاحظين للظواهر باعتبارها توجد خارج الذات وتتحدد في وقائع وأشياء قابلة للمراقبة والقياس، وهذا ما يصعب توفره في مجال العلوم الإنسانية.
- الإيديولوجيا، تظل الايديولوجيا حاضرة وبقوة في مجال العلوم الإنسانية، لأن العالم يتعامل مع مواضيع حية تنتمي إليه نفسيا أو ايديولوجيا أو عقديا أو عاطفيا.. لذلك تحضر الأحاسيس والانطباعات الشخصية والعواطف والأحكام المسبقة التي تعمل عمل الموجه أو المرشد بالنسبة للباحث، إذ لا يستطيع هذا الأخير التمييز والفصل بين أفكاره وإسقاطاته الإيديولوجية وبين خصائص الموضوع المدروس، وبالتالي تؤثر هذه السلوكات في البحث وتفقد العمل الصبغة العلمية والموضوعية التي لا غنى عنها في كل علم.
طبيعة المنهج
انطلقنا في مقدمة هذه الدراسة من إشكالية يمكن عدها مدخلا ابستيمولوجيا في بناء هذا الموضوع ، وأشرنا إلى وجود تصورين منهجيين في دراسة الظواهر الإنسانية.
لاشك أن الدعوة إلى توحيد العلوم وتطبيق مناهج العلوم الطبيعية في حقل الدراسات الإنسانية، قد خلق أزمة حقيقية داخل مجال العلوم الإنسانية، وذلك بفعل فصل النشاطات الإنسانية عن كل المعايير الأخلاقية والجمالية والدينية، وربطه بالظواهر الطبيعية المادية حتى يصبح شبيه بالآلة التي تشتغل بنظام معين. وهذا ما أدى إلى نشأة إشكالية المنهج في هذه العلوم طال فيها الجدل بين أنصار النزعة الوضعية، وفريق آخر ناقد لهذه الرؤية مفضلا لمنهج يتناسب مع خصوصية العلم الإنساني.
وعلى هذا الأساس يمكن القول أن النقاش الإبستيمولوجي حول إشكالية العلمية في الظواهر الإجتماعية والإنسانية أدى إلى ظهور أو تأسيس تصورين منهجيين: أحدهما يسعى إلى المقاربة على أساس المنهج التفهمي التأويلي، والآخر يتجه إلى المقاربة على أساس المنهج التحليلي التفسيري.
المنهج التفهي التأويلي
برز هذا المنهج كرد فعل على دعوة القائلين بدراسة الظواهر الإنسانية بمناهج العلوم الطبيعية من جهة ومحاولة لتخطي الأزمة العالقة بهذا المجال من جهة أخرى[2] وبالتالي تشكل هذا المنهج في صيغته الأولية داخل حقل الدراسات الفلسفية المتعلقة بفلسفة الوعي وفلسفة اللغة، مع الاتجاهين الفينومينولوجي "هوسرل وهايدغر"، والهيرمنيوطيقي "دلتاي وغادامير". ليعرف بعد ذلك تعميما وانتشارا واسعا في مختلف حقول الدراسات الإنسانية بوجه عام. ومضمون هذا المنهج أو قاعدته الأساسية التي ينبني عليها ترى أن الظاهرة الاجتماعية لها منطقها الخاص يتمثل في مجموعة من الارتباطات والانتظامات التي يجب تتبعها وتكوين فكرة عن كيفية عملها حتى يتم التمكن من فهمها وتأويلها. وذلك اعتبارا لكون الفعل الإنساني محكوم بنظامه الخارجي المتمثل في الأسباب والدوافع[3] -قد أشرنا إليها في حديثنا عن طبيعة الموضوع- وله أيضا نظامه الداخلي المتمثل في الغايات والمقاصد، ومن هنا نستطيع القول أن العلوم الإنسانية كونها تهتم بمجال خاص ومتميز عن مجال العلوم الطبيعية، فلا غرابة في أن هذا الانفراد وهذا التميز ينعكس أيضا على المنهج الذي يليق بها، ويفتح إمكانية معرفة الفعل الإنساني الذي يستلزم فهمه وتأويله.
وفي هذا الصدد يقول ماكس فيبر:
يظهر السلوك الإنساني سواء في مظاهره الخارجية أو في عالمه الداخلي ترابطات وانتظامات أثناء تطوره.. إن هذه الترابطات والإنتظامات الخاصة بالسلوك الإنساني تقبل أن تكون موضوع تأويل تفهمي..[4]
المنهج التحليلي التفسيري
سبق وأشرنا في تمهيدنا لهذه الدراسة لما حققه العلم في مطلع القرن التاسع عشر من انتصارات وتطور ونهضة حقيقية شملت كل ميادين المعرفة العلمية، حتى أصبح القرن التاسع عشر بمثابة معلم تاريخي استكملت عبره المعرفة العلمية مشروعها الهادف إلى السيطرة على الطبيعة كما شرع لذلك فلاسفة القرنين السابع والثامن عشر "ديكارت وفرانسيس بيكون" وغيرهما من التجريبيين والعقلانيين واتفاقهم على اعتبار العلم والمعرفة العلمية سلطة بيد الإنسان الحديث، الذي يتطلع إلى الانتصار على الطبيعة وتملكها وتسخيرها لصالحه.
وأمام هذا التقدم الملحوظ توفرت أرضية خصبة لتشكل المنهج العلمي، أو بتعبير أدق المنهج التحليلي التفسيري، الذي نما وترعرع داخل هيمنة الروح الوضعية المتشبعة بالنزعة العلموية التي رأت الاكتمال في المنهج التجريبي كنموذجا مغريا يمكن الاقتداء به في مقاربة الظواهر الإنسانية، وذلك راجع بالأساس إلى الاعتقاد بأن المعرفة العلمية يمكن اختزالها في قيمتين أو خاصيتين هما: الموضوعية والحتمية، بدليل أن "العلم موضوعي بمناهجه وحتمي بنتائجه". وبالتالي فإن المنهج العلمي الموضوعي يقتضي الابتعاد عن البحث في العلل والغايات والتوجه نحو تحليل نظام العلاقات التابتة والمتغيرة بين الظواهر سعيا إلى تفسيرها في شكل قوانين تسهم في بناء النظريات العلمية. ومن هنا نجد كبير الوضعيين أوكست كونت قد أكد في كتابه "دروس في الفلسفة الوضعية"، على إمكانية دراسة الظواهر الإنسانية دراسة موضوعية، لكن شريطة أن يتحرر الباحث من كل التصورات اللاهوتية والميتافيزيقية، لأنها حسب تقديره تنتمي إلى مرحلة سلبية تشكل عرقلة للتقدم العلمي.
وانطلاقا من مقولة العلم موضوعي بمناهجه وحتمي بنتائجه عمد أوكست كونت إلى تأسيس علم اجتماع يستند إلى مبدأ السببية والملاحظة، وغايته صياغة قوانين علمية والكشف عن العلاقات القائمة بين الظواهر.
ختام
إذا أردنا أن نتحدث عن حصيلة عامة يمكن الخروج بها انطلاقا من هذه الدراسة، أمكننا القول أن مشكلة العلوم الإنسانية أو إشكالية العلمية في العلوم الإنسانية؛ قد تعددت إزاءها المواقف والمقاربات وتوزعت بين من يدعو إلى دراستها بنفس مناهج العلوم الطبيعية، أي دراستها دراسة علمية موضوعية، وهؤلاء هم الوضعيين مثل أوكست كونت الذي بلغ به الإغراء الذي راكمته العلوم الحقة كالفيزياء والبيولوجيا إلى حد تسميته لعلم الاجتماع بالفيزياء الاجتماعية الذي استبدل لاحقا بالسوسيولوجيا. كما سلك نفس الطريق أيضا "إميل دوركايم" باعتباره أحد أقطاب المدرسة الفرنسية في العلوم الاجتماعية، حيث أكد بدوره على إمكانية موضعة الظاهرة الإنسانية في علم الاجتماع في كتابه "قواعد المنهج السوسيولوجي"، وحدد شروط دراسة الظاهرة الإنسانية انطلاقا من خصائص أربعة هي: خاصية الخارجية، خاصية العمومية، خاصية القهرية والإلزامية، خاصية الحركية والتغير. وفي مقابل هذا التوجه الداعي لعلمية العلوم الإنسانية، برز توجه آخر ناقد للرؤية القائلة بدراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية تجريبية، لكون الفعل الإنساني يمتزج بالوعي والإرادة، ويحمل معاني متعددة ويهدف إلى غايات معينة، وبالتالي فإن المنهج الأنسب في مقاربة أفعال الإنسان ونواياه ومقاصده هو منهج الفهم والتأويل، وانطلاقا من هذه الأهمية عمل "دلتاي" على التفريق بين مناهج العلوم الطبيعية والإنسانية، ونقد أصحاب النزعة الوضعية بمصطلح الفهم في مقابل مصطلح التفسير.
ونود أن نشير ونؤكد مرة أخرى أننا لا ندعي اليقين أو الحسم في مسألة العلمية في العلوم الإنسانية من خلال هذه الدراسة، ولكن ما قصدناه انطلاقا من هذه المساهمة المتواضعة هو إعطاء صورة تقريبية -حول العلوم الإنسانية والصعوبات التي تعترضها في محاكاة العلوم الطبيعية وتحقيق شرط الموضوعية- للقارئ العادي، أي الغير المختص الذي يقرأ ويطلع من خارج تخصص الفلسفة وعلم الاجتماع. وقبل الختام يجدر بنا أن نثير الانتباه إلى أن النقاش أو الحوار الذي أثير حول إشكالية العلمية في ميدان العلوم الإنسانية لم يحمل الصفة العلمية الخالصة، وإنما كان بالأساس -ولازال- حاملا كذلك للصفة الإيديولوجية[5]
قائمة المراجع
- حسين علي، ماهي الفلسفة؟، التنوير للطباعة والنشر 2011، ص49.
- يمنى طريف الخولي، مشكلة العلوم الإنسانية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014،ص41، بتصرف
- اعتمدت في كتابة هذه الدراسة على محاضرات أسس علم الاجتماع، للدكتور مصطفى بنرضوان رحمه الله، أستاذ الفلسفة بكلية الأدب والعلوم الإنسانية - تطوان.
- ماكس فيبر، مقالات في نظرية العلم، 1965، ص 227.
- العلوم الإنسانية والإيديولوجية، لمحمد وقيدي. للمزيد من التفصيل في هذه المسألة يمكن الرجوع إلى: عصر الإيديولوجية، لهنري إيكن