غادامير في العالم العربي | جمال الشاكري

الحجم

النموذج الثاني: أمينة ودود

لقد اتجه مشروع أمينة ودود إلى إعادة تأويل القرآن المكتوب، من خلال كتابها "Qur’an and Woman" بناء على مناهج جديدة في التأويل، معيدة الاعتبار للمرأة، ومبينتا جدارتها إلى جانب الرجل من خلال إعادة تأويل النص الديني، واستنباط الأدلة منه، التي تدل على قيمة المرأة وتعلي من شأنها، منتقدة في هذا الباب مجموع التأويل والتفاسير القديمة والتي تنعتها بالرجعية الذكورية، كما أنها لم تأخذ بالرأي المناهض للنص الديني، والذي يدعي أن النص الديني لم يعد صالح لهموم هذا الزمان، بل شرعت في تأويل النص على ضوء المناهج والتصورات الهيرمنوطيقية المعاصرة.
بداية ترى أمينة ودود أن ما يعاب على النماذج التقليدية التي ترى بأنه ينبغي إعادة التجربة الدينية وتكرار ما قرره السلف، هو إقصاء كل مظاهر التجديد، كما أنها تعيب على النموذج الحداثي الذي يرفض البعد الديني كيف ما كان، وهكذا اتخذت ودود موقف مغاير للموقفين، السابقين، للإشارة وفقط، هو نفس الأمر تقريبا قام به بولتمان كما جاء في الوريقات الأولى.
إن أمينة ودود قامت باستئناف عملية التأويل، باحثتا عن الاستفادة من البعد القيمي للإسلام، وإعادة تشكيله وفق خلفية فلسفية وجودية، تطرد عن الدين الإسلام الممارسات التي تحيل على الإقصاء للمخالف دينيا وجنسيا ومذهبيا.
قامت ودود بتبيان دور المرأة ومكانتها في النص القرآني، سعيا منها إلى التصدي للتأويل الذكوري الذي هيمن منذ عصور، وتحرر من قبضة المنهج الذي يحد من الفهم ويغلق باب تعدد التأويلات التي قد يحتملها النص القرآني، وتذهب ودود إلى رفض الرأي الذي يرى في الموضوعية شرط أساسي لتحقيق الفهم الحقيقي، واحتكار المعنى الأصلي، كما أن هذا الرأي الذي يلغي الأحكام المسبقة مرفوض عند ودود، لأنه يعلي من سلطة المنهج على النص، الأمر الذي يؤدي إلى فصل الذات عن الموضوع، وهكذا يحد المنهج من فهم القارئ.
لعل المؤول الذي يتبع المنهج يباشر القراءة بنوع من التعالي على النص لا المحاية، حيث يتصرف المؤول بدرجة من الوثوقية في نجاعة المنهج المسلط على النص، وبالتالي يتم تعميق الهوة بين المؤول ونصه، لهذا ترى ودود أن كل قراءة هي انعكاس لتصورات الذات القارئة، ولمقاصدها من قراءة النص، وهذا النوع من الإقبال على النص يؤثر على النتائج البعدية [10]، وفي هذا الصدد تنكر الدكتورة أمينة ودود سلطة منهج معين يدعي لنفسه الموضوعية، والذي بفضله يقصي القارئ كل القراءات المخالفة له، بمعنى لا يمكن حسب هذه المفكرة أن يكون هناك منهج يدعي لنفسه النزاهة والصلاحية، وخير نموذج على تسلط المهج، ذلك التأويل الذكوري للقرآن، الذي يقوم على ادعاء مفاده، التفسير الصحيح والحقيقي الذي يتوصل للمعنى الدقيق في النص، ويجلى في المدونة التفسيرية التي نشأت بعد وفاة الرسول عبر مسار تاريخي، وأصبحت تدعي الصلاحية لنفسها وإمكانيتها التي تكمن في الوصول للمعنى الأحادي للنص القرآني، والذي يصل للقصد الإلهي والذي لا يقبل الزيادة أو النقصان في التأويل والفهم.
   لقد تم نزع القداسة عن النص الإلهي، لتلحق بمناهج تفسيره، التي كانت تعلي من شأن الرجل على المرأة، وترى ودود بأن النص هو عبارة مجموعة من الفرضيات و المنطلقات اللغوية، والأفكار، والأحكام؛ تشكل نسقا من التقبل والتمثل، حيث تتيح تعدد الرؤى، كل شخص يفهم حسب ثقافته وهويته، أي تعدد القراءات واختلافها، هكذا فودود ترفض كل المناهج الصارمة التي تقوم بتفسير النص المقدس، كما ترفض الرأي الذي يقول بالتحرر من الأحكام المسبقة في عملية القراءة، بل ينبغي أن يتعامل القارئ من النص بطريقة حميمة، ولما كان هناك تعدد في الذوات واختلاف قدراتها، كان اختلاف الفهم والتأويل أمرا ضروريا، في هذه الحالة يصبح المعنى ينبع من الذات والنص.
تقول صاحبة المقال: " فالمسافة الزمنية الفاصلة بين المسلم العاصر والقرآن- بما هو نص تفصلنا عنه فترة تاريخية ممتدة لا تستدعي، عند الكاتبة، إلغاءها بالعودة إلى الماضي لفهم النص القرآني في ضوئه، إنما ينتظر من المؤول أن يعد الإصغاء إلى الماضي دافعا إلى فهم حاضره، ودالا على إمكان التقاء اللحظتين المتباعدتين، وتفاعلهما في إنتاج معنى ممكن للنص يكون احتمالا من احتمالات القراءات المتعددة للنص القرآني، على اختلاف المنطلقات النظرية التي يصدر عنها"[11]. هذا يعني استدعاء الماضي لفهم الحاضر، وبالتالي فالفرد يذهب إلى الماضي من خلال قراءته ويعود إلى ذاته، الأمر تحدث عنه هايدغر فيما يخص الآثار الفني في علاقته بالذات، حيث يحتمل تأويل مختلفة باختلاف الذوات، كما هناك أن هناك رفض للمنهج، كما هو الحال عند غادامير معتبرا أن المنهج كما هو معروف مع ديكارت، قاصر عن كشف حقيقة جديدة، فهو لا يقوم سوى بالتصريح بصنف من الحقيقة مضمرة بداخله سلفا، إن المنهج يجعل الذات تقوم بالقيادة والتحكم والتلاعب بالموضوع، أما الجدل فهو يترك حسب غادامير الموضوع الذي يقابله يلقي أسئلته الخاصة التي يتعين الإجابة عنها، وبالتالي الموقف التأويلي يتجاوز ثنائية الذات والموضوع، حيث أصبح السائل طرف من الموضوع، أي في خضم العملية التأويلية فاعل ومنفعل.[12]
هناك مسألة ينبغي التنبيه عنها، تتجلى في إعادة الاعتبار للأحكام المسبقة، إلا أنه ينبغي التميز بالأحكام المسبقة الضارة، والأحكام المسبقة التي ينبغي الاحتفاظ بها، من أجل تحقيق فهم ذاتي تتماها فيه ثنائية الذات والموضوع، فالنوع الأول ترفضه ودود لأنه يحل عائقا أمام الفهم، حيث يتعلق الأمر هنا، بالتفاسير التي تدعي الصلاحية في كل زمان ومكان، والذي يطلق عنه محمد أركون اسم "المدونة الرسمية المغلقة" ويقصد بهذه العبارة؛ تلك الوحدة المغلقة من النصوص، ويخص بالذكر مصحف عثمان، حيت لا تقبل الزيادة أو النقصان، إلا أن هناك اختلاف بين قراءة ودود وأركون، يتجلى في كون هذا الأخير يميز بين نوعين من القرآن، الأول شفاهي والثاني مكتوب، أي التميز بين مرحلة الوحي الشفهي على لسان الرسول، وبين الرحلة التي جمع فيها القرآن، لكن الغاية تظل واحدة وهي تخليص الخطاب القرآني من قبضة السلطة الأحادية ذات التفسير الأحادي، لكن يقر أركون كما تقر ودود بالبعد القيمي للخطاب القرآني، والذي تم حجبه من لدن المفسرين، لاعتبارات سياسية، وبالتالي نجد أركون يطبق مناهج جديدة لمسألة النص القرآني، من قبيل المنهجية التاريخية والمنهجية السيمائية- الألسنية.[13]
كما قامت ودود هي الأخرى باعتماد التصورات الجديدة في فهمها وإعادة تأويلها للنص المقدس، من قبيل تصور غادامر في رفضه للمنهج الصارم، من أجل توسيع المعنى هو نفس المسعى الذي اتجهت إليه ودود، حيث رأت أن المدونات التفسيرية تقع في تضيق المعنى، وحده بالظرفية التاريخية المنشئة، وتسييجه داخل سياق ثقافي معين[14]، نفس الأمر قام به غادامير من خلال دعوته إلى إعادة الاعتبار للجدل لأنه أوسع وأشمل من المنهج.

تركيب

خلاصة القول إن مسألة التأويل الجديد لم تظهر في المجتمع الغربي وفقط، بل حتى المجتمع العربي الإسلامي، ويعود الفضل إلى غادامير من خلال نقده للمنهج الذي يقوم على ثنائية الذات والموضوع، والإقرار بالتحام الذات بالموضوع، والذي ينتج عنه سد الهوة بين الذات والموضوع، وبالتالي القول تعدد التأويلات، التي تجعل الفرد ينطلق من نص ما في زمن معين لفهم ذاته، أي يسافر ليعود إلى نفسه، بالإضافة إلى التأويلات الغير مشروطة بزمن من الأزمنة، وهنا يلتقي كل من هايدغر وغادامير، وبولتمان، وأركون، وودود.

قائمة المصادر والمراجع

  1. جوزيف أنطون، الليبرالية المسيحية اللاهوت الليبرالي الخلفية والفكر، 12/12/2018.
  2. أنطوان فليفل، اللاهوت الطبيعي ومعرفة الله الوجودية، إشكالية الوحي في لاهوت رودولف بولتمان، مجلة المحجة، العدد السابع والعشرون 2013، ص 2.
  3. المرجع نفسه، ص 2.
  4. المرجع نفسه ص 3.
  5. المرجع نفسه ص 5.
  6. المرجع نفسه ص 6.
  7. المرجع نفسه ص 8-9.
  8. مارتن هايدغر، مقدمة نداء الحقيقة ترجمة وتقديم ودراسة الدكتور عبد الغفار مكاوي، كلية الآداب – جامعة القاهرة 1977، ص 221-222.
  9. هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج، ترجمة د. حسن ناظم علي حاكم صالح، راجعه عن الألمانية د. جورج كتوره، دار أويا، ط الأولى 2007، ص 36.
  10. إيمان المخينيني باحثة تونسية، مقال نحو تأويلية جندرية للقرآن، قراءة في كتاب (Qur’an and Woman) لأمينة ودود، مؤمنون بلا حدود، قسم الدين وقضايا المجتمع الراهنة، 28 يونيو 2017، ص 6.
  11. المرجع نفسه ص 9.
  12. عادل مصطفى، فهم الفهم مدخل إلى الهيرمينوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادامر، الطبعة الأولى 2007، ص 278.
  13. محمد أركون، قراءات في القرآن، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي 2017، الطبعة الأولى 2017، مقدمة الطبعة الثانية.
  14. إيمان المخينيني باحثة تونسية، مقال نحو تأويلية جندرية للقرآن، قراءة في كتاب (Qur’an and Woman) لأمينة ودود، مؤمنون بلا حدود، قسم الدين وقضايا المجتمع الراهنة، 28 يونيو 2017، ص 12.

عن الكاتب

جمال الشاكري طالب بسلك الماستر، الفلسفة والتربية، بالمدرسة العيا للأساتذة مكناس

مناقشة


إذا كان لك أي ملاحظة أو تعقيب أو إضاف للموضوع، المرجو تركها في صندوق التعليقات لاثراء النقاش، وتحسين الموضوع.
للتبليغ أوالنشر على الموقع المرجو مراسلتنا عبر نموذج الاتصال الموجود أسفل الصفحة
السابق
تعديل
author-img
Pets Queen
google-playkhamsatmostaqltradent