في مفهوم العقل on the notion of mind

الحجم

طبيعة العقل و وظائفه

تأسس مفهوم العقل في الفلسفة أولا في شكل عقل كلي كوني، يشيع النظام والتناسق والانسجام في العالم، يقابله عقل إنساني هو صورة ناقصة له، يسعى إلى السمو والتعالي نحوه، عن طريق التأمل والتحرر من الجسد وغرائزه وأهوائه. فوظيفة العقل الإنساني، ضمن هذا التصور الأنطولوجي الثيولوجي للعقل، هي السعي إلى بلوغ معرفة تأملية شمولية للكون والإنسان (الحكمة)، غايتها تحقيق الانسجام والكمال والتوافق مع العالم. في مقابل هذا التصور الذي أنتجته الفلسفة اليونانية حول العقل - بوصفه نظاما، ومعيارا، ومثلا أعلى للفكر والسلوك - أنتجت الفلسفة الحديثة تصورا مخالفا للعقل : «فلقد خفت، خلال العصر الحديث الحمولة الموضوعية للعقل، واتخذ معنى ذاتيا أضيق. فالعقل يعني الآن الملكة التي بها يفكر الناس ويحكمون. فأن يكون الإنسان عاقلا هو أن يعرف كيف يستخدم ذكاءه، أقل مما هو أن يفوض أمره لجلال نظام العالم وبهائه».(ميلاد العقل في اليونان، ماتيي). لقد غدا العقل إذن أداة لمعرفة العالم والسيطرة عليه، بدلا من تأمله والانبهار به. إنه ألة منتجة للمعرفة، ومحققة للمردودية. إنه ذكاء، ومنهج، وتقنية لتنظيم المعطيات والأفكار، واستخلاص النتائج اللازمة عنها، وتطبيقها تطبيقا عمليا نافعا. تأسس هذا التصور التقني المنهجي للعقل في فلسفة ديكارت. فالعقل عند ديكارت، هو نور فطري في الإنسان، يمكنه من التمييز بين الخير والشر، ويوصله إلى معرفة الحقيقة وهو متساو بين الناس جميعا، فلا يختلفون في امتلاكه، وإنما في طرق استخدامه. ولذلك اقترح ديكارت منهجا لحسن استخدام العقل، مستلهما من المنهج الرياضي، يكفل في اعتقاده، إذا ما تم الالتزام به بدقة وصرامة، بلوغ معرفة يقينية لا حدود لها، تكون أداة للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها. وهذه المعرفة لا يستمدها العقل من التجربة الحسية (لأن المعرفة الحسية قابلة للشك بسبب خداع الحواس وخطئها)، وإنما يشتقها من ذاته، أي من أفكار فطرية في العقل. ولكن كيف يمكن للعقل أن يبني معرفة للواقع (الطبيعة) من ذاته دون الاعتماد على التجربة الحسية؟ إن حجة خطأ الحواس وخداعها لا تكفي لإقصاء دور التجربة الحسية في المعرف العقلية. بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك مع النزعة التجريبية المتعارضة مع النزعة العقلانية الديكارتية، والقول إن المعرفة كلها تأتي من التجربة الحسية. فالعقل عند الوك والتجريبيين عموما شبيه بصفحة بيضاء لا يوجد فيه إلا ما يأتي من التجربة الحسية. حتى ما اعتبره ديكارت أفكارا فطرية وبداهات عقلية. ويمكن أن يستنتج من ذلك أن العقل لا يعود - على الأقل في محتواه المعرفي - متساويا بالطبيعة والفطرة بين الناس، بل سوف يختلف باختلاف تجارب الناس وبيئاتهم الطبيعية والثقافية. فالعقل إذن مركب ثقافي، يكتسب، وينمو، ويتطور، ويختلف من مجتمع لآخر، ومن عصر تاريخي لآخر. ونتيجة لذلك، تفقد المعرفة العقلية خصائص الكلية والكونية والضرورة واليقين التي تضفيها عليها النزعة العقلانية. إن العقل لا يعود حينئذ مستودعا لحقائق خالدة مطلقة وثابتة أبدية. بل هو وعاء لمعطيات التجربة التي تنتظم فيه بفعل العادة والتكرار.  ولكن كيف يدرك العقل خطأ الحواس ويصححه؟ وكيف يفترض ويستنتج ويستدل على ما لا تدركه الحواس مباشرة ؟ إذ لو كان العقل وعاء لاحتواء معطيات التجربة لما استطاع ذلك. ولكان أشبه بمرآة تعكس التجربة على نحو سلبي. فالأطروحة التجريبية مثلها إذن مثل الأطروحة العقلانية، تنظر كل منهما إلى العقل من جانب واحد. وذلك ما حاول كانط تجاوزه. فقد أبرز أن العقل، حقا، ليس مستودعا لمعرفة فطرية سابقة على التجربة، ولكنه ليس، كذلك، مرأة تعكس بشكل سلبي معطيات التجربة. بل هو بناء معماري، يتألف من صور ومفاهيم ومبادئ قبلية سابقة على التجربة، بواسطتها يقوم العقل بتوحيد وتنظيم معطيات التجربة الحسية أو مادتها (الحدوس الحسية) وتحويلها إلى معرفة كلية وضرورية. ويقوم العقل بعملية التوحيد هذه في مستويين : مستوى الفهم (بمقولاته) ومستوى العقل الخالص (بمبادئه)، فالفهم هو العقل متصلا بالتجربة الحسية، وهو ملكة للقواعد (قواعد الحساب المنطقي : الاستدلال والاستنتاج)، والعقل الخالص هو العقل مستقلا عن التجربة الحسية أو مرتبطا بها على نحو غير مباشر بواسطة الفهم، لأن العقل الخالص يعيد توحيد ما وحده الفهم، في إطار المبادئ الترنسندنتالية للعقل، هذه المبادئ التي يضعها العقل أو يتكون هو نفسه منها كما يقول كانط : «العقل منظومة من المبادئ القبلية». هكذا يكون العقل فاعلا، مُوحداً مُنظماً، بدونه كان سيظهر العالم فوضى لا نظام فيه. فهو الذي يضفي النظام والمعقولية على الواقع. ولكنه في ذات الوقت عاجز عن إنتاج المعرفة من ذاته وحدها، لأنه صورة تظل بدون المحتوى التجريبي فارغة. وينتج عن هذا، مباشرة، أن قدرة العقل على المعرفة محدودة، خلافا لتصور ديكارت، وكجميع الفلاسفة الوثوقيين أو الدوغمائيين الذين وثقوا في العقل ثقة مطلقة ولم يطرحوا السؤال عن مدى ما يمكن للعقل أن يعرفه. ومن ثم أنشأوا ميتافيزيقا عقلية خالصة تبحث في ما وراء الواقع (وجود الله، خلود النفس، بداية العالم). وهي ميتافيزيقا متناقضة يطبعها الصراع والتناقض والاختلاف، بسبب عدم إخضاع العقل للنقد. إن العقل عندما يتجاوز مجال التجربة، يصير عقلا جداليا سجاليا، لا ينتج معرفة يقينية، وإنما ينتج أطروحات متناقضة لا سبيل إلى حلها. فالمجال الوحيد الذي يمكن للعقل أن ينتج فيه معرفة أكيدة هو المجال التجريبي العلمي، والمجال العملي الأخلاقي. لأنه في المجال الأول يجد سندا موضوعيا يحتكم إليه (وهو التجربة)، وفي المجال الثاني يستند على الإحساس بالواجب الأخلاقي وعلى الإرادة الطيبة.

العقل المنغلق والعقل المنفتح:

التاليالسابق
تعديل
author-img
Pets Queen
google-playkhamsatmostaqltradent