![]() |
مفهوم العقل |
من دلالات المفهوم الى الطرح الإشكالي
يشير العقل في دلالته المتداولة، إلى صفة في الإنسان تعتبر مصدرا لقدرته على التفكير السليم، والحكم الصائب، والسلوك القويم. فحين يوصف إنسان بأنه عاقل يكون معنى ذلك أنه لا يتناقض في تفكيره وأقواله (يدرك الحقيقة ويقولها)، وأن سلوكه يتسم بالرزانة والحكمة والتعقل، ويتعامل مع الآخرين على أساس العدل والإنصاف، والنزاهة، والتفاهم، والحوار، القائم على الحجة والإقناع، واحترام رأي الغير. يتضمن هذا التمثل الإيجابي للعقل أن العقل قيمة تبوئ الإنسان مكانة أسمى بين مجودات العالم، وخاصة منها الحيوان. إذ يعد العقل فرقا مميزا للإنسان يفصل بينه وبين الحيوان رغم اشتراكه معه في الحيوانية. فالإنسان «حيوان عاقل» في مقابل الحيوان غير العاقل. بيد أن تمثل الإنسان ككائن عاقل ليس قارا. فالإنسان يفقد عقله أو رشده كما يقال، وينعت تصرفه أحيانا بالحيواني أو البهيمي، كما يحدث في حالات الشجار والتهكم. وينخرط في اعتقادات وممارسات تعتبر لاعقلية، مثل العنف، والظلم، والخرافة، والسحر، والشعوذة. ويستسلم للأهواء والغرائز الحيوانية فيه. ويمكن أن يصاب بالجنون والحمق، ويكون طفلا قبل أن يكون راشدا. ففي كل هذه الحالات يعتبر الإنسان غير عاقل فاقدا للعقل أو مختله أو ناقصه. ومع ذلك يقال مثلا : «إن الحقيقة تخرج من أفواه الأطفال والحمقى». هكذا تبدو الدلالة المتداولة للعقل ملتبسة وغير قارة، لا يتبين فيها ما إذا كان العقل جوهرا ثابتا في الإنسان أم عرضا قد يحضر فيه ويغيب، وقد يزيد وينقص، ويصح ويعتل، وهو ما يجعل العقل واللاعقل لا تتحدد علاقتهما بوضوح، بحيث لا يظهر ما إذا كانا منفصلين أم متداخلين. لذلك يفقد العقل بداهته الظاهرة، ويغدو طرح السؤال : ماهو العقل ؟ والجواب عليه، مطلبا ضروريا للتفكير في العقل فلسفيا، وطرح السؤال، حول العقل، على هذا النحو، هو من شأن الفلسفة بل إنه السؤال الأساسي في الفلسفة، ما دامت الفلسفة تقدم نفسها بوصفها نتاجا للعقل وتأسيسا للعقل في آن واحد، ومن ثم يتحول السؤال العام : ماهو العقل؟ إلى سؤال خاص : ما هي الدلالة الفلسفية للعقل ؟ ولكن لفظ العقل هو أولا لفظ لغوي، قبل أن يكون لفظا فلسفيا ذا دلالة فلسفية خاصة، لذلك يقتضي تحديد هذه الدلالة الأخيرة تحديد الدلالة اللغوية للعقل أولا. ورد في لسان العرب : «العقل الحجر والنّهي ضد الحمق ... والعاقل الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه وقيل العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها ... وسمي العقل عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه... وقيل العقل التمييز الذي يتميز به الإنسان من سائر الحيوان ... وعقل الشيء ... فهمه». وإذا كانت هذه الدلالة اللغوية العربية للفظ العقل تبرز بقوة الطابع العملي الأخلاقي للعقل بوصفه قوة زاجرة مضادة للأهواء والغرائز الإنسانية، والحمق والحيوانية، فإن الدلالات اللغوية للفظ العقل في اللغات اليونانية واللاتينية والفرنسية، تبرز البعد الفكري واللغوي والأونطولوجي للعقل. هكذا نجد لفظ اللوغوس Logos الإغريقي يدل من بين ما يدل عليه، على : «الكلام، والنظام، والذكاء، وملكة الإستدلال والحكم، والعلة، والمبدأ، والأساس، والنسبة أو العلاقة الرياضية.» (معجمM. A Bailly. ). وتدل كلمة Ratio اللاتينية – وهي ترجمة لكلمة لوغوس - على الحساب والتفكير، ومن هذه الكلمة اللاتينية اشتقت كلمة Raison الفرنسية ولذلك تحتفظ في دلالتها الأصلية بمعنى الحساب، وتدل اصطلاحا على : «ملكة التفكير التي تتيح للإنسان المعرفة والحكم والعمل طبقا لهما ... والعلة والمبدأ، والأساس، والنسبة الرياضية بين عددين أو كميتين رياضيتين.» (معجم، Robert) تحتفظ الدلالة الفلسفية للفظ العقل بدلالاته اللغوية هذه، مع تصنيفها وتعريفها وربطها بعلاقات بحيث يتشكل من مجموعها المفهوم الفلسفي للعقل. وهكذا نجد لالاند في معجمه الفلسفي يصنف المعاني الفلسفية للعقل إلى معنيين رئيسيين : العقل بوصفه ملكة للمعرفة، والعقل بوصفه موضوعا للمعرفة، الأول ينتمي إلى الذات العارفة، ولكنه ليس ذاتيا بالمعنى السيكولوجي، بل بالمعنى المنطقي والمعياري. يتجلى المعنى المنطقي للعقل في أنه ملكة الاستدلال، والحدس، وملكة المبادئ». يشتغل العقل المنطقي بمفاهيم كلية مجردة، وينتج بواسطة ربطها بعلاقات و روابط منطقية (روابط الحقيقة)، معرفة يقينية، ذات صلاحية كونية تفرض نفسها على جميع الناس في كل زمان ومكان، بهذا المعنى يعد العقل خاصية مميزة للإنسان في مقابل الحيوان، وتتقابل المعرفة العقلية المتسمة بالتجريد والكلية والضرورة واليقين، مع المعرفة الحسية والخيالية ومع الوهم. أما العقل المعياري أو الحس السليم، فوظيفته «التمييز بين الخير والشر، والصدق أو الحق والكذب أو الباطل، والقبح والجمال، بواسطة شعور باطني تلقائي مباشر». إنه ملكة القيم والمعايير التي يتحدد بها التفكير الصحيح، والسلوك الخير، والجمال الحق. هنا يتقابل العقل مع الهوى والغريزة. وتتقابل المعرفة العقلية مع الوحي، باعتبار أن الوحي معرفة إلهية منزلة مطلقة تقتضي الإيمان والتسليم بها، على حين تعتبر المعرفة العقلية نتاجا لمجهود العقل البشري، ومن ثم فهي معرفة متطورة قابلة للخطأ والتصحيح والعقل الموضوعي يعني العلة والمبدأ والأساس، ومعنى ذلك أن في الواقع نظاما سببيا أو عليا على أساسه يتحقق التوافق بين العقل الإنساني وبينه، فالعقل هو : «ملكة إدراك أسباب الأشياء وعللها» كمايقول كورنو، إنه علة الحقيقة في الفكر وعلة الوجود في الأشياء. ومن ثم تعتبر الفوضى والصدفة والخوارق لا عقلية. هكذا يكون العقل : ذاتيا وموضوعيا، واحدا (ملكة المعرفة) ومتعدد الأشكال (استدلالا، حدسا، معيارا)، كليا وكونيا وضروريا في مقابل الإحساس والخيال والوهم، نسبيا ومحدودا في مقابل الوحي أو المعرفة الإلهية المطلقة. من مجموع هذه التقابلات تنبع الإشكالية الفلسفية للعقل : ما هي طبيعة العقل : هل هو طبيعي فطري أم ثقافي مكتسب ؟ من أين تستمد المعرفة العقلية الكلية والكونية والضرورة التي تتسم بها ؟ إن كان ذلك من مبادئ العقل، فمن أين يستمد العقل مبادئه؟ هل العقل حرية وانفتاح أم قيد وانغلاق؟ ما هي الحدود الفاصلة بين العقل واللاعقل ؟ أليست هذه الحدود من صنع العقل ذاته؟