حول مفهوم الفلسفة و رهاناتها

ما الفلسفة؟

ما هي الفلسفة مفهوم الفلسفة مقالات فلسفية مدرسة الفلاسفة بأثينا لرافائيل
في الفلسفة 

ماهي الفلسفة

يمكن أن نفهم من هذا السؤال، للوهلة الأولى، بحثا عن تعريف للفلسفة يحدد مجالها تحديدا مباشرا، فنعرف أين ومتى وكيف تبدأ وتستمر، إلا أن طرح السؤال « ما هي الفلسفة ؟ » يعني ضرورة ، الدخول في مجال الفلسفة وإستعمال أداة من أدواته الأساسية، وهي السؤال. فالسؤال «ما هو؟» سؤال فلسفي لأنه يبحث عما هو أساسي وعميق، وطرحه فيما يخص الفلسفة يعني التفكير فيها بوصفها نمطا من التفكير يحمل دلالة خاصة.
و عند البدء في البحث عن «الجواب» وعن تحديد للموضوع الذى تتناوله الفلسفة والطريقة التي يتم بها هذا التناول، تبرز صعوبات من صنفين:
- صنف الصعوبات التي تترتب عن الأفكار السائدة حول الفلسفة، وهي أفكار قد ترى في الفلسفة ثرثرة لا طائل من ورائها، أو تخصصا لا سبيل إلى فهم لغته ومضامينه. وما يقدم من أفكار عن الفلسفة، فى هذه الحالة، يكون من قبيل التمثلات الساذجة و التلقائية التي تقوم على الأفكار المسبقة والإعتقادات الراسخة.
- أما الصنف الثاني من الصعوبات فيرجع أولا إلى أن كل فيلسوف عندما يعرف الفلسفة فإنما يعرف فلسفته الخاصة. ويرجع ثانيا إلى أن عدة معارف أصبحت علوما وانفصلت عن الفلسفة، فتقلصت بذلك دائرة المعارف التي كانت تشملها الفلسفة، مما جعلها تغير نظرتها إلى ذاتها وإلى العالم. ويرجع ثالثا إلى كون الحديث عن المعرفة من خلال تحديد الموضوع والمنهج، حديث يخص العلوم أكثر مما يخص الفلسفة. فموضوع هذه الأخيرة ليس محددا بصفة ثابتة.
إن هذه الصعوبات نفسها، بصنفيها، تفرض إبراز طبيعة الفلسفة وإظهار مميزاتها الخاصة من خلال تناولها كنمط من التفكير له متطلباته وأبعاده وقيمته.
إذا كان تعريف العلوم والتقنيات يتم . حسب ما تتناوله من موضوعات، أو ما تؤدي إليه من نتائج، فمن الواضح أن الفلسفة ليست لها موضوعات خاصة بها، فالمشكل المطروح أمامنا يتعلق إذن بالمعرفة التي تحققها الفلسفة:
- هل تحقق فعلا معرفة ؟
- وإذا حققتها فأي نوع من المعرفة هي ؟
- وكيف يتم تحقيقها ؟
إن الفلسفة لا تحقق معرفة كتلك التي تحققها العلوم، فهي لا تقدم معلومات حول الظواهر الطبيعية تفسرها وتربط فيما بينها من خلال منهج موضوعي محدد. لقد كانت الفلسفة تعتبر علما يشمل كل المعارف الممكنة، لكن انفصال الرياضيات والفيزياء فالكيمياء فالبيولوجيا ثم العلوم الإنسانية، وإستقلالها بمناهجها الخاصة جعل الفلسفة تعيد النظر في التعريف الشمولي.
وقد إنطلقت إعادة النظر هذه من السؤال : ما الذي تبقى للفلسفة ؟
إن القضايا التي تبقت للفلسفة لا يمكن لأي علم أن يتناولها، وهي القضايا المصيرية للإنسان مثل الحرية، الخير، الحب، الموت وغيرها من القضايا التي إرتبطت وترتبط بوجود الإنسان وإن ظهور العلوم لم ينه علاقة الفلسفة بالعلم، بل وسعها وغير من طبيعتها، فأصبحت الفلسفة تهتم بنتائج العلم وقيمته، كما برزت ضمنها إهتمامات جديدة بأسس العلم وقضاياه (الإبستمولوجيا)، وهذا يعني أن العلم أصبح بدوره موضوعا للتفكير الفلسفي.
يمكننا إذن أن تعرف الفلسفة التعريف التالي:
الفلسفة تفكير في الوجود الإنساني الفردي والجماعي، وفي المعرفة سواء كانت معرفة علمية أو غير علمية.
إن المعرفة الفلسفية معرفة خاصة إذن، تجعل من الوجود البشري في العالم موضوعا لها، وتحول نتائج المعارف الأخرى إلى قضايا للتفكير.
إن العلوم تنتج معارف، والتقنية تنتج وسائل للسيطرة على الطبيعة، بل على الإنسان نفسه وذلك دون أن يخوض العلم ضرورة في التفكير في نتائجه. وحين تطرح الفلسفة هذه النتائج للتفكير، وهذا هو دورها، فهي تجعل منها مشاكل أي أنها لا تعتبرها بديهية أو طبيعية، بل تتساءل حول أهميتها في حد ذاتها وفي علاقتها بالوجود الإنساني، وحول موقعها في مجال المعرفة عامة وبين المعارف الأخرى. (نص « قيمة الفلسفة» . راسل).
يمكن إذن أن نتقدم في تعريف الفلسفة فنضيف، أنها تفكير نقدي وإشكالي يتدخل في ما ينتجه الإنسان من معارف أو سلوكات اجتماعية أو تقنيات ليبحث في دلالاتها وقيمتها وأثرها على الإنسان، و هو تفكير يكتسي طابعا عميقا وأساسيا.
فالإنسان يعيش بوصفه فردا أو جماعة، وجودا معقدا. فهو يعيش، في وجوده الفردي، تجارب أساسية مثل الحب، الخوف، الشيخوخة، الذكريات، الموت وغيرها، وهذه التجربة الفردية الحميمية أو المشتركة، الدفينة أو المعلنة، تعطي للوجود الإنساني بعدا خاصا، و تدفع إلى التفكير في معناه الخاص وجوهره الأساس (نص «التفلسف والعودة إلى الذات». هوسرل). أما الحياة الجماعية للإنسان فتنشأ عن مظاهرها المتنوعة الإقتصادية والسياسية والأخلاقية، ظواهر تطرح الفلسفة قضاياها مثل الحق، العدالة، الدولة، علاقة الفرد مع الآخرين، العنف وغيرها ... وهكذا يمكن القول بأن التفكير في الوجود، بمختلف مظاهره، سمة من السمات الأساسية المحددة للفلسفة.
فكيف تتم هذه النظرة الفلسفية إلى الوجود وإلى المعرفة ؟
كيف يتم التفكير الفلسفي ؟
نستطيع تتبع التفكير الفلسفي في إنتاجات الفلاسفة أنفسهم. فالفيلسوف يعرض أفكاره وخطوات تفكيره ، وينتج نصوصا ذات منطق خاص. و هنا نلاحظ بأن أشكال التعبير الفلسفية تختلف وأحيانا تتعارض. فقد إعتمد سقراط على الحوار الشفوي وعلى أسلوب التوليد، واعتمد أرسطو على العرض المنطقي المنظم، بينما اعتمد نيتشه على لغة أشبه بلغة الشعر القائمة على الصورة والرمز، بل نجد عند إسبينوزا استدلالا يضاهي الإستدلال الرياضي غير أنه رغم إختلاف أشكال التعبير بين الفلاسفة فإن التفكير الفلسفي يخضع لمتطلبات وضرورات: 
  1.  الصرامة المنطقية: لا يتعلق الأمر في الفلسفة بطرح أفكار حرة، بل بتصورات واضحة ومتكاملة يتم التعبير عنها في مفاهيم فلسفية تنظمها نظريات ذات مقدمات ونتائج. وقيمة الأفكار الفلسفية لا تأتيها من ذاتها بل من التدرج في إستخلاصها ومن تبريرها تبريرا عقليا ، حتى يكون الحجاج الذي يقدمها حجاجا عقليا مقبولا. 
  2. التناول الكلي: إن الفلسفة تتناول موضوعاتها تناولا كليا في حين يتم تناول موضوعات العلوم تناولا جزئيا، فالفيلسوف لا يجزئ فكرة الحقيقة إلى مكونات صغرى عكس. العالم الذكي يتصور الحقيقة جزئية و مرتبطة بظاهرة محدودة وفي شروط محددة. 
  3.  النظرة الشمولية: إن الفلسفة تنظر إلى الموضوعات نظرة شمولية فهي لا تتناول الحالات الفردية المعزولة في الزمان والمكان إلا بقدر ما تدل على حالات شمولية تهم الوجود برمته، وإذا وقف الفيلسوف عند حالات خاصة مثل سقراط والمجتمع اليوناني، أو هيجل والدولة الألمانية ... فإن وقوفه يحمل مدى ودلالة شموليين، فالتصورات والمبادئ الشمولية هي غايته البعيدة، او في حالات أخرى، هي منطلقاته وخلفياته إن هذه المتطلبات يمكن أن توجد في أنماط أخرى من التفكير، وقد يدفع ذلك إلى القول بأن الفلسفة شكل ثقافي مثل باقي الأشكال الثقافية من آداب وعلوم، غير أن خطوات التفكير لا تأخذ طابعها الفلسفي الفعلي إلا عندما تقوم على إعادة النظر في الأفكار القائمة والسائدة حول موضوع معين، وعندما تتساءل عن قيمة تلك الأفكار، أي عندما تجعل من التساؤل والشك المنهجي منطلقا و مبدأ لها. وهكذا يبدأ التفلسف حين تكف الأمور عن تقديم نفسها كبداهات، فتتولد الأسئلة وينطلق الشك. إذ بدون ممارسة الشك والتساؤل تحافظ الآراء على يقينها المطلق، (نص «الفلسفة تساؤل». جيرانفيل). إلا أن التساؤل الفلسفي ليس هدفا في حد ذاته، انه لا يهدف إلى زحزحة القناعات و التشكيك في المعارف، لأن الشك من أجل الشك هو دوران في حلقة مفرغة، وريبية تنفي قدرة الإنسان على الحصول على المعرفة الصحيحة ؛ بل إنه بداية الإستقلال عن العادة التي يألفها الفكر، وإن الشك المنهجي كما يمثله ديكارت إحتراس من الأفكار والآراء التي تحملها الذات ما لم يتم التأكد من الأساس الذي تقوم عليه، وهو أيضا أسيس قواعد للتفكير الصحيح.
وبذلك تتميز الفلسفة عن غيرها، فهي مجال تأسيس نمط من التفكير قائم على الصرامة العقلية والتساؤل حول الأساسي، وإنها بذلك نموذج تحتذيه الأشكال الثقافية الأخرى عندما تسعى إلى الفحص الدقيق، وحقل مزود بالمفاهيم والتصورات ومبادئ التفكير تستلهمها الأنماط الفكرية المختلفة وتشتغل بها.
فالفلسفة لما بدأت ق السادس مع اليونان (ق السادس قبل الميلاد،) لم تظهر كشكل من التفكير إنضاف إلى أشكال الفكر الموجودة (الأسطورة، الرياضيات ...) بل كفكر جديد، كتفكير في ما هو موجود ابتداء من تلك الحالة الأولية التي تفقد فيها الأشياء بداهتها و وضوحها، وهى بداية تجد منطلقها في حالة الدهشة التي تتولد عنها التساؤلات الجذرية. إن الدهشة علامة على يقظة الوعي الإنساني اتجاه العالم الخارجي وهي القدرة على إعتبار أمور غير بديهية وغير مفهومة بذاتها، إنها ما يدفع إلى طرح الأسئلة الكبرى حول العالم و الإنسان. وقد كان أصل العلم والفن والفلسفة هو الدهشة أمام أسرار العالم، «إننا نندهش أمام الأحداث الطبيعية عندما نجهل سببها، لكننا نندهش كذلك مما يحدث، خارج الطبيعة بفعل التقنية وبهدف إرضاء الحاجات البشرية» (أرسطو 322-385 ق.م). والدهشة مما هو طبيعي و ما هو إنساني، تأخذ صبغة فلسفية عندما تتجاوز الإنفعال والتأثر إلى التساؤل (نص «الدهشة الفلسفية». شوبنهاور).
ظهرت الفلسفة أيضا كمحبة للحكمة بعد أن كان أناس يعتبرون أنفسهم حكماء، وكنقد للسياسة بعد كان نجاح الفرد مرهونا بنجاحه في السياسة و كرفض للخطاب السوفسطائي بعد أن كانت السوفسطائية باب النجاح الاجتماعي.
إن هذه السمات التي بدأت بها الفلسفة ظلت ملازمة لها، فهي فكر «جديد » مجرد وعام، ولكنها ليست تخصصا يمارس في استقلال عن المؤسسات والظواهر والمشاكل الاجتماعية، لأنها لا تنفصل عن المشتغل بها – الفيلسوف، إلا أن العلاقة بين الفيلسوف ومحيطه علاقة معقدة فهو إن كار «غريبا » كما يقول ميرلوبونتي، فهو في خضم حركة المجتمع. إن ذلك كله يجعل التساؤل حول الفلسفة تساؤلا لا عن مجالها وميزاتها فحسب بل عن مكانتها ودلالتها في الحياة أيضا وعن بعدها الإنساني الذي يمثله الفيلسوف بموقعه ودوره داخل المجتمع.

الفلسفة و الحياة

قد تبدو الفلسفة فاقدة لكل صلة بواقع الناس، وغريبة عن حياتهم و انشغالاتهم، وقد تبدو اللغة الفلسفية ، بعيدة عن متناول أفهام الناس لما فيها من تخصص وتجريد ، و إن هذا يدفع إلى التساؤل حول العلاقة الفعلية للفلسفة بالإنسان العادي وبحياته، وحول قيمة المضمون الذي تحمله الفلسفات المختلفة. و لعل العلاقة التي تربط الفلسفة بالحياة، تفرض أن نعود إلى تسميتها ذاتها : لقد إعتبر فيتاغوراس اليوناني (القرن السادس قبل الميلاد) نفسه محبا للحكمة ولم يعتبر نفسه حكيما، وهذا الموقف يعني لدى الفيلسوف بحثا عن الحقيقة و ليس إمتلاكا لها لأن الحقيقة الجاهزة أداة للسيطرة والسلطة والعنف. والفلسفة لا تسعى إلى السلطة و السيطرة بل تجعل من السلطة ومظاهرها المختلفة موضوعا للتفكير.
يقول ديوجين اللايرتي : إن لفظ «فلسفة» من خلق محاورته مع ليون طاغية السيسيونيين (سكان سيسيونيا اليونانية). وقد إحتج في ذلك بأن الرجل الحكيم لا وجود له، و أن الحكمة يحظى بها الالهة وحدهم. وقبله كانت الفلسفة «تسمى حكمة و كان يسمى حكيما من يمتهنها ويتوفر على نفس غنية ونبيلة، أما الفيلسوف، فهو على العكس من ذلك، يسعى إلى بلوغ الحكمة» (نص «الفلسفة بحث عن الحقيقة» ياسبرز).
لقد ظل لفظ «فلسفة» يحمل ذلك المعنى الإشتقاقي الذي تعنيه اللفظة اليونانية التي إستعملها فيتاغوراس «فيلوسوفيا» («فيلو» تعني المحبة و «سوفيا» تعنى الحكمة، أما فيلوسوفوس فتعني محب الحكمة). وقد رسخ سقراط دلالة الحكمة في الفلسفة فهو يعتبر ان الحكمة «خير أسمى» بوسع ا لانسان يبلغه إذا ما قام بالمجهود الضروري لفهم العالم، وإخراج تلك القدرة الكامنة في النفس إلى حيز الوجود، القدرة على نبذ الملذات و الالام وعلى تهدئة فورة الأهواء وعلى التمسك بالعقل، و المعرفة الصحيحة المترتبة عن نشاط تلك القدرة العقلية ليست غاية في ذاتها بل الغاية هي السلوك القويم الناتج عنها. الحكمة إذن فضيلة تتجلى فى الإستعداد لإتخاذ المواقف المتزنة والمتعقلة عمليا ونظريا، وعدم الإنسياق في تيار الحياة الإعتيادية والإستقلال عن الأفكار السائدة والأوهام التي يعيش عليها الإنسان عادة ويجعل منها حقائق نهائية. هذه الحكمة ليست تعليمات و لا وصايا ولا قوانين تملى، بل هي موقف يصدر عن الشخص نفسه ومعرفة يحققها في إنسجام مع قيم توصل إلى تحديد حقيقتها وأهميتها عن طريق بحثه الخاص والمستقل (الخير، العدالة، الحقيقة
وغيرها ...) («الفلسفة هي دراسة الحكمة» ديكارت).
هذه الحكمة تضع الفلسفة داخل الجماعة، فهي تعيد النظر في قيم الجماعة وأفكارها وسلوكاتها، وتحاورها، بل تدخل معها في جدل و خصام كما وقع لسقراط مع المجتمع الأثيني لما حاكمه بتهمة إفساد الشباب، لكنها في الوقت نفسه تضعها خارج الجماعة لأنها لا تقبل تلك القيم والأفكار و السلوكات على نحو قبلي ودون إعمال العقل الذى لا يخضع سوى لمتطلباته الخاصة. وكون الفلسفة خارج الجماعة يعني أنها تعمل وفق ضروراتها وبمعزل عن الانتظارات المباشرة للمجتمع. وإنعزال الفلسفة عن المجتمع وإندماجها فيه في آن واحد يجعل منها فكرا يحمل بعدين أساسين : بعد أخلاقي، و بعد إنساني لأنها تجعل من الإنسان قيمة أساسية، و لأنها لا تهدف في منتهى الأمر إلى قيم تقوم على العقل لا على التقليد.
و يتجلى البعد الأخلاقي في كون الفلسفة تتناول القيم المتداولة وتطرحها للتفكير، وهذا التفلسف في حد ذاته، فعل أخلاقي في جوهره. إن التفكير الفلسفي، مهما كانت إتجاهاته، وقوف غير مشروط في وجه العنف. «غير أن العنف لا يوجد فقط في كرة البليارد التي تصدم كرة أخرى، أو في العاصفة التي تحطم حصادا، أو فى تصرف السيد الذي يسيء معاملة العبد، أو في الدولة الإستبدادية التي تحتقرمواطنيها، أو في الإحتلال الحربي الذي يذل الناس. فالعنف هو كل فعل نقوم به كما لو كنا وحدنا في ميدان الفعل، وكأن باقي العالم لا يوجد سوى ليستقبل ذلك الفعل، وبذلك يكون كل فعل عنيفا لما نخضع له دون أن نكون مساهمين فيه بجميع تفاصيله». فالفلسفة إذن، وإذا أخذنا بعين الإعتبار هذا التعريف للعنف، تتوجه بالضرورة إلى متلق تضفي عليه صورة إيجابية هي صورة المحاور، فهي لا تساومه ولا تراوغه و لا تخفي عنه خلفياتها، بل تفترض فيه محاورا مشاركا، وهذه الصفة تأتيه من استعماله للعقل ومن إنخراطه في علاقة الحوار التي تربط بينه وبين محاوره من خلال اللغة. لماذا اللغة ؟ «إن العقل واللغة خارجان العنف (. .)، وإذا كان على الأخلاق أن تبعد عنها فلابد من رباط عميق يربط بين العقل واللغة والأخلاق».
إن التفلسف إذن هو تبن لموقف أولي يتجسد في نبذ العنف. فإختيار التفلسف كموقف وممارسة هو إلغاء للعنف. (نص «العقل والعنف». إ. فيل).
وإختيار التفلسف هو أيضا، إنخراط في الحياة إنخراطا واعيا وحرا. والإنخراط الحر هو الذي يمليه العقل، إد أن الإنسان الحر هو الذي يقوده العقل في الحياة وهو الذي يعيش من أجل الحياة دون خشية الموت فحكمته كما يقول اسبينوزا : تأمل في الحياة لا في الموت».
هكذا تتفتح الفلسفة على الإنسان، لتصبح نزعة إنسانية، أي تفكيرا يجعل من الإنسان منطلقه وغايته. وهذه القيمة الإنسانية تتلخص في الاعتراف بالإنسان كجوهر ثابت و بمكانه المركزي في الواقع، وبقيمته التي تتولد عنها جميع القيم. وهذا الإعتراف يتم من خلال احترام الشخص وحريته وتفتحه العقلي والوجداني.

صورة الفيلسوف

ليس الفيلسوف شخصا يمارس مهنة كما يمارسها عالم أو طبيب أو تقني. فهو لا يعمل وفق قواعد معروفة يسير على نهجها ، بل يعيش حياة تفكير وبحث ويطبع تفكيره وبحثه بطابعه الشخصي و يرسم لنفسه طريقا خاصا. إن الفيلسوف ينتمي إلى ذلك النوع من الناس الذين يتحملون مسؤولية أنفسهم وغيرهم من خلال التفكير في مصير عام، ومن خلال موقف يتخذونه لا دفاعا عن شخصهم بل دفاعا عن أفكار تصبح أفكار الآخرين. ينتمي الفيلسوف إلى نوع الشعراء والمصلحين وغيرهم ممن يجسدون أفكار الآخرين في أفكارهم ويدافعون عن مواقف الآخرين في مواقفهم، ويعيشون تفكيرهم بوصفه حياة ومصيرا كاملين. لهذا كله لا يمكن أن نتحدث عن الفلسفة دون أن نتحدث عن الفيلسوف.
ويمكن أن نتصور الفيلسوف على صورة سقراط الذي كان يجوب شوارع أثينا محاورا عامة الناس ليدفع بهم إلى التفكير في يقينياتهم، أو على صورة أفلاطون المعلم الذي كان يتحلق حوله أتباعه في أكاديميته (المدرسة التي أسسها وكان يعلم فيها الفلسفة)، أو على صورة هيجل الأستاذ الجامعي الذي كان الطلبة يقبلون على دروسه استعدادا للخوض في مغامرة الفلسفة، أو على صورة سارتر، الشخص الذى كان يرفض المؤسسات والتشريعات ويعيش أفكاره من خلال حياته الخاصة، وهذه الصور لا تختلف، إلا ظاهرا، فالفيلسوف يعلم الناس أو يعلم الطلبة كيف يقودون تفكيرهم وكيف يناهضون المسلمات، ويضع مسافة بينه وبين الحياة اليومية، فتكون أفكاره متعالية عن النظرة الجزئية و المنفعية. وفى هذه الحالات جميعها ، يكون الفيلسوف هو ذلك الشخص الذي يمتهن مهنة يعشقها ولا يفصل عنها حياته، وهذا يجعل من تعليمه خلاصة لتجربة خاصة يفترض الدخول فيها وتعلم معناها الأساسي، قبول مبدأ التفلسف الأول و هو التجرد و الفيلسوف ليس شخصا متعصبا ولا وثوقيا، لأنه فيلسوف، أي شخص «يعرف أنه لا يعرف شيئا»، لذلك فهو يبحث بحثا حرا دون أن يعتبر من اختلف معه في الرأي خصما أو عدوا. إن المتعصب يسعى إلى تحويل كلاّمه إلى سلطة فعلية رافضا الآخر فكرا وشخصا بينما يرفض الفيلسوف كل سلطة غير سلطة العقل. ولعل صورة الفيلسوف المثلى في تاريخ الفلسفة ظلت دائما هي صورة سقراط. فقد جسد رغبه الفيلسوف في الكشف عن الأوهام التي تخفيها الآراء وفي البحث عن المعرفة الحقة بالذات و بالأشياء. وهذا ما شكل مجال معارضته للسوفسطائية. وقد قامت السوفسطائية على تعليم الخطابة مقابل أجر، لا من أجل البحث عن الحقيقة أو تعليم الفضيلة بل من أجل إفحام الخصم في المحاكم وفي محافل الخطابة. و إذا كانت السوفسطائية قد قامت على استخدام اللغة كأداة للسيطرة، معتبرة ان كل فكرة استطعنا أن نقنع بها الآخر هي عقيدة، وان كل حقيقة هي ذاتية ونسبية، فقد آمن سقراط على العكس من ذلك بوجود حقيقة واحدة منزهة عن المنفعة، ودفع بمحاوريه، بمن فيهم السوفسطائيين، إلى اكتشاف أوهامهم اعتمادا على تفكير عقلي ومنطقي («نص قوة السفسطائية» أفلاطون).
فهل يظل للفيلسوف بصورته تلك، مكان و دور في المجتمع الحديث الذي يقوم على المردودية والفعالية وعلى تمجيد العلم والتقنية؟

رهانات الفلسفة

إن تقدم التقنيات وتطور العلوم، وتطبيق قدرات العقل في السيطرة على الطبيعة وتنظيم المجتمع وتسهيل الإستهلاك؛ من شأنه أن يدفع إلى التساؤل من جديد عن الفلسفة، عن قيمتها ودورها وفائدتها في مجتمع يحتاج إلى حساب دقيق لحاجيات الناس ولإنتاجهم و لاستهلاكهم، و لقدراتهم الحربية ولغيرها، إذن فما أهمية أفكار عامة مثل الأفكار الفلسفية وما ضرورتها أمام قوانين علمية دقيقة؟
إن الانشغال العارم بالتطبيق المباشر للعلوم أو التقنيات، يحجب مكانة الفلسفة، فإذا كانت الفلسفة تحمل رسالة عميقة خلف لغتها المختصة ونقاشاتها التي تبدو خاصة هي رسالة الحرص على قيمة الإنسان ؛ فإن تقدم العلوم والتقنيات نفسه ما يفتأ يتيح استمرار التفكير الفلسفي وضرورته، فهو يحمل في ذاته مشاكل لا يستطيع العلم طرحها، ويفرز أسئلة أخرى من طبيعة مغايرة. وإن هذا ما يضع الفيلسوف أمام مسؤوليات جديدة.
فالعلم ليس مستقلا عن المجتمع، ونتائجه وتطبيقاته تنزع نحو تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة، إلا أن تأثير هذه التطبيقات النفعية على الإنسان نفسه تفرض حضورا مستمرا للفيلسوف لكشف الأوهام الجديدة التي أفرزها المجتمع الحديث والمعاصر، ولطرح التساؤل حول وضع الإنسان وقيمته داخل هذا المجتمع. فقدرة العلم الباهرة على تحقيق حياة أسهل لمعظم الناس، تطرح تساؤلات من قبيل ما هي حدوده ؟ ما هي أبعاد سلطته حين يتعدى مجاله ؟ ما علاقة العلم كمعرفة بالتقنية ؟ كيف يتحقق وعي الانسان بذاته و بالعالم أمام سيطرة العلم والتقنية؟ كيف يعي الإنسان الطبيعة خارجه و داخله أمام التحولات الكبرى التي ينتجها العلم ؟ ما أثر تقدم التقنيات على الابداع الفني وعلى قدرة الإنسان على التخيل وعلى حريته في الابداع ؟ ... الخ.
إن هذه التساؤلات، وغيرها، لا تعني عند طرحها و فحصها من لدن الفيلسوف، إلا وقوفا للتأمل في آثار تطور المجتمع و وضعية الإنسان داخله، إنها نوع من اليقظة الضرورية أمام الإنجراف نحو تشيئ الإنسان و تجاوز إنسانيته.
قد تبدو هذه التساؤلات فى ظاهرها، حديثة راهنة تتعلق بوضع جديد، إلا أنها في جوهرها، مستمرة منذ بداية الفلسفة ما دامت تنطلق من التفكير في الإنسان كقيمة عليا.
إن الفلسفة تواجه أفكارا، حول العلم والمجتمع و الإنسان، تنتشر دون تمحيصها والتفكير فيها، لأنها تعتبر بديهيات كافية لفهم العالم. وإن هذا الوضع لا تواجهه الفلسفة إلا بجعله موضع تفكير. (نص «استحالة الخطاب الواحد» إ. فيل) فدور الفلسفة بالتحديد هو إحلال الوعي مكان اللاوعي، والفكرة مكان الوهم و العقل مكان العنف، و الوضوح مكان الخلط، والانتماء إلى تاريخ الفلسفة بدل تكرار أفكار لا مصدر لها و لا يتحمل أحد مسؤوليتها، أي القيام بتفكير فلسفي فعلي ذي تاريخ ويتحمل مسؤولية أفكاره و مواقفه و في مجتمع المردودية والحسابات الدقيقة، لا يمكن أن تظهر فعالية هذا الدور فوريا وبشكل مباشر، لأن فعالية الأفكار الفلسفية لا تظهر إلا بعد أمد طويل. إن هذا الرهان الصعب والضروري يفرض على الفلسفة أن تعود إلى ذاتها باستمرار متسائلة عن مهمتها ومكانها بين مختلف المعارف، مما يجعل من السؤال «ما الفلسفة؟» سؤالا يحمل دوما دلالة التفكير المستمر في مجال فكري يظل حريصا على أصالته رغم ما يحصل فيه من تغيرات وتحولات. (نص «← ما هي الفلسفة» هيدجر).
___________
المصدر:
- مجموعة من المؤلفين، مقرر الفكر الاسلامي و الفلسفة، السنة الثانية الثانوية الشعبة الأدبية، دار النشر شارع الفضيلة الحي الصناعي يعقوب المنصور الرباط، 2003، ص 6.
google-playkhamsatmostaqltradent