قراءة في "رسالة في التسامح" للفيلسوف الإنجليزي جون لوك, عبدالمجيد باعكريم

الحجم
بعد انهيار المرجعيات العلمية والفكرية عقب الثورة الكوبرنيكية وفقدان الأرض الكثير من امتيازاتها، اندلعت أزمة تخص مفهوم الإنسان باعتباره ذاتا، ومفهوم العالم باعتباره موضوعا، مما جعل مفهوم الذات يطفو على السطح، ولا نقول يبزغ في الأفق كما هو متداول، للبحث عن موقع جديد له غير الموقع الفيزيائي الذي كان يستمد منه الدلالة، واستبداله بموقع فكري خالص أكثر رحابة، للتعالي على المادة وحدودها الضيقة صوب آفاق أخرى تعيد له لمعانه ونجوميته المفقودة. لذلك جاء مفهوم الذات في صورة تأكيد لقيمته الأنطولوجية والابستمولوجية أكثر منه ظهور بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأن التأكيد جاء في واقع الأمر نتيجة التهديد الناجم عن انحدار الذات الى مستوى الموضوع وادعاء هذا الأخير نفس صلاحيتها سواء بسواء ومنازعتها الريادة والسيادة، والمطالبة باقتسام الوظائف والامتيازات. فظهرت ضرورة القيام بعملية إعادة توزيع الأدوار والسلط من جديد.
لقد تمت ترجمة هذا الوضع الطارق من الناحية الدينية بمنازعة الكاثوليكية المتمثلة في الكنيسة الرومانية، المستقرة في الفاتيكان، مركزيتها، من قبل الهوامش أو الأقمار إن صح التعبير، والمستجدة في النزعات القومية الصاعدة وثوقها الى الاستقلال عن المركز. فانهيار المرجعية الوحيدة أو الذات الدينية نجم عنه تفتتها الى مرجعيات وذوات متعددة الألوان والأشكال ومتساوية المشروعية والحقوق، بظهور التعددية الدينية، إثر الانقسام الذي لحق بالكنيسة الكاثوليكية. والجدير بالذكر هنا أن المقصود بالتعددية ليس ذلك الاختلاف الديني الذي عرفته كل الأديان السماوية التي تعايشت فيما بينها بصورة من الصور في التاريخ، حيث العلاقة كانت بين المؤمن والكافر، وإنما المقصود ظاهرة جديدة داخل نفس الديانة أي المسيحية، وهي ظهور شكل من العلاقة بين المسيحي الأرثدوكسي والمرتد، والتي لم تكن بدورها جديدة كل الجدة وإنما الجديد فيها الأبعاد غير المسبوقة التي اتخدتها. واللا تسامح الديني آت من تمسك كل طرف بحقه في تنصيب نفسه مالكا للحقيقة ومرجعها الوحيد والأوحد ذائدا عنها ومن ثمة حقه في تسخير كل امكانات ومكونات المجتمع، ونعت المتخلف عنه بالهرطقة والمروق، وبالتالي التصرف في حياته وحريته وممتلكاته.
هنا ظهرت إشكالية جديدة، ابستمولوجية في أساسها ودينية وسياسية في تفرعاتها، تطرح مسألة الحقيقة الدينية والمشروعية القانونية والسياسية، وتتمثل في معيار الحكم على الأشياء، بعد أن ضاع المرجع الوحيد والثابت الذي كان بمثابة ذات واضحة المعالم ومشروعة الوجود ومعترفة السلطة، من قبيل من يحكم على من؟ ومن يحاكم من؟ وبماذا نحاكم؟ ومن ينفذ الحكم؟ وما إلى ذلك من الإشكاليات التي وجب البث فيها والفصل في أمرها. ما كان لحل هذه المعضلات أن يتم خارج الإطار الإبستيمي الذي سطرته النظرة الجديدة الى العالم كما تبينت عناصرها ومقتضياتها مع النسق الفلكي الكوبرنيكي. فهكذا نجم عن توحيد الأرض والسماء على المستوى الفلكي سلسلة من عمليات التوحيد طالت كل أصقاع الفكر، من السياسة حيث استقرت السلطة وتمركزت في شخص الملك في استقلال عن البابا، لتخطو بعد ذلك خطوة ثانية نحو توحيد أشمل امتد الى اقتسام السلطة مع الشعب، بظهور نظريات العقد الاجتماعي والفكر الديموقراطي، وبارتفاع أصوات تطالب بحقها في الحياة الكريمة والحرة، والمشاركة في بلورة القرارات السياسية والمدنية، وطلب الخلاص الزماني والدنيوي الى جانب الخلاص السماوي والديني سواء بسواء، مرورا عبر الناحية القانونية حيث تم توحيد مفهوم الجريمة والعقاب، بعد أن كان له وجهان، أحدهما روحاني ديني وآخر مادي مدني، من اختصاص سلطتين متباينتين، إحداهما دينية خارجية مادامت تتلقى تعاليمها وتعليماتها من البابا في روما والأخرى زمانية داخلية ولا يتجاوز دورها مستوى تنفيذ الأحكام الصادرة عن الأولى.
إن تفتت وتبعثر المشهد الديني وستحالة تفويض أي طرف للهيمنة على الآخر، بالنظر الى تساوي المشروعيات، طرح ضرورة البحث عن سلطة أخرى غير دينية يوكل إليها أمر الفصل في الأمور، وهي السلطة المدنية المتمثلة في المؤسسة الملكية. فكان ذلك أساس "الفصل" بين الدين والدولة. سنرى أن الأمر كان وصلا وتوحيدا في الحقيقة، خصوصا في انجلترا.
لقد كانت إنجلترا سباقة الى الإصلاح الديني بظهور الكنيسة الأنكليكانية، عقب رفض البابا طلاق الملك هنري VII من كاثرين الأراغونية (1529) على إثرها جاء اعتراف كنيسة إنجلترا بالملك رئيسا للبلاد وللكنيسة الأنكليكانية بدون منازع سنة 1531. بدأ الملك مباشرة إصلاحات من ضمنها تعديلات جذرية في نظام الرهبنة بالسماح لرجال الدين بالزواج، لكن دون أن يفك مع ذلك كل ارتباط مع الكنيسة البابوية، مما أثار حفيظة شريحة هامة من المجتمع التي ظلت متمسكة بالعهد القديم، وهو ما نجم عنه نزاعات وحروب دينية امتدت الى أواخر القرن السابع عشر، شطرت إنجلترا شطرين متناحرين، أحدهما يناصر الإصلاح الديني وينشد التسامح، والآخر ينبذه ويرى فيه سبب فرقة الأمة وتهديدا لسلمها الاجتماعي والسياسي.
في هذا الإطار تندرج رسالة لوك في التسامح الى جانب محاولات أخرى في الجزيرة والقارة الأوروبيتين، لحل هذه الإشكالات، عبر تحديد مجال السلطتين السياسية والدينية الى جانب مجال ممارسة الأفراد والجماعات لحرياتهم. وقد جاء طرح لوك متجاوزا أطروحات معاصريه التي لم تغادر الإطار الأخلاقي والديني للمسألة والتي لم تر الحل إلا في توحيد المعتقد. لقد حاول لوك مقاربة المشكلة بصورة نسقية، انطلاقا من نظريته الميتافيزيقية حول المعرفة والعقل الإنساني ونظريته السياسية حول الدولة والعقد الاجتماعي. فكانت مقاربته متكاملة من خلال طرحه لسؤالين متوازيين ومتمفصلين:
"ماهي حدود التدخل المشروع للقوة السياسية؟ وماهي حدود الحق الذي يملكه الرعايا لادعاء التحلل من إلتزامات القوانين المدنية أو عدم الاعتراف بصلاحيتها بدعوى طابعها الاضطهادي، وذلك حينما يستدعون معتقداتهم وتتخذ بعض أفعالهم بعدا دينيا؟"[1]

2. أسس التسامح عند جون لوك:

التاليالسابق
تعديل
author-img
Pets Queen
google-playkhamsatmostaqltradent